11 رجب 1437 - 19/04/2016
من مشرق المجد والرسالة بزغ في ربوع مكة نور ساطع في بيت سيد البطحاء أبي طالب (رضي الله عنه) حيث ولد جعفر (رضي الله عنه) بعد ولدين وهما طالب وعقيل، وكان كل منهم يكبر أخاه بعشر سنين، وبعده بعشر سنين ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبناءً على هذا تكون ولادة جعفر (رضي الله عنه) بثلاثة وثلاثين سنة قبل الهجرة - على التقريب -.
ولاشك أن شخصية جعفر (رضي الله عنه) ازدحمت فيها كل الفضائل والمكرمات، ولم لا وهو قد نشأ في مدرسة أبي طالب (رضي الله عنه)، سيد البطحاء والمحامي الأول عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ورسالته، لا ينكر ذلك إلا جاحد وجاهل فقد امتلأت كتب الأدب والتاريخ بأشعاره الصريحة التي توضح عمق إيمانه بالنبي (صلى الله عليه وآله) ورسالته فقد جاء في السيرة الحلبية (ج1: ص 165):
إن أبا طالب (رضي الله عنه) خطب في زواج ابن أخيه محمد (صلى الله عليه وآله) من خديجة، وقال: (وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل).
وقال راداً على قريش كما نقل البغدادي في خزانة الأدب (ج1 ص 261).
ألم تعلـــموا أنـــا وجدنا محمداً نبياً كمـوسى خط في أول الكتب
وقال (رضي الله عنه) مخاطباً النجاشي ملك الحبشة:
تعلم خـــيار الــــناس أن محــمداً وزير لموسى والمسيح ابن مريم
أتى بالهــــدى مثل الذي أتــيا به فكــــل بـــــأمر الله يهدي ويعصم
وإنكم تتلـونه في كتابكم بصــدق حديــــــث لا حــــــــديث المترجم
فلا تجعـــــلوا الله نـداً وأسلــموا فإن طريق الحــق لـــــيس بمظلم
وأما أمهُ فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم التي كانت للنبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة الأم وهي أول هاشمية تزوجت هاشمياً وولدت له وأدركت النبي (صلى الله عليه وآله) فأسلمت وحَسُن إسلامها.
عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، قال: (كانت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب حادية عشرة) يعني في السابقة إلى الإسلام. وكانت بدريَّة وهاجرت وبايعت معه. وعن الزبير بن العوام قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدعو النساء إلى البيعة حين أنزلت هذه الآية: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك..)، وكانت فاطمة بنت أسد أول امرأة بايعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيتها وصلى عليها ونزل في لحدها واضطجع فيه وأحسن الثناء عليها.
عن ابن عباس لما ماتت فاطمة أم علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله (صلى الله عليه وآله) قميصه واضطجع في قبرها فقال له أصحابه: يا رسول الله ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه المرأة، فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرُ بي منها إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر (أسد الغابة: ج 7 ص 217).
في هذا البيت الذي كان في ذرى المجد والشرف والذي لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها ولد جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) وفتح عينيه على ذينك الأبوين العظيمين والذين أورثا كل قيم الخير والإنسانية لوليدهما المبارك، وبعد أن كبر في كنف أبيه الذي كان بيته مأوى للقاصي والداني، مر أبو طالب بأزمة لكثرة عياله من جهة ولأن موقعه الكبير والمتميز في مكة كان يفرض عليه التزامات مالية غير قليلة، وكان جعفر يرى أباه وهو يواجه هذه الضائقة المادية بكل صبر ويتلقاها بنفس كبيرة مطمئنة. يقول المؤرخون أن أزمة شديدة مرت على قريش وكانت حصة أبي طالب منها كبيرة لما ذكرناه من كثرة عياله من جهة وكثرة التزاماته الاجتماعية باعتباره مقصداً وموئلاً لذوي الحاجات من جهة أخرى، وجاء النبي (صلى الله عليه وآله) لعمه العباس - وكان من أيسر بني هاشم - قائلاً له: يا عم إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى في هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكفلهما عنه، فقال: الناس نعم.
فانطلقنا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) علياً فضمه إليه وأخذ العباس جعفرَ فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب مع رسول الله حتى بعثه الله نبياً فتبعه وآمن به وصدقه ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه (سيرة بن هشام: ج1 ص 263).
في موكب الرسالة
أسلم جعفر (عليه السلام) بعد أخيه علي (عليه السلام) بقليل وكان إسلامه قبل أن يتخذ النبي (صلى الله عليه وآله) دار الأرقم مركزاً له. ففي الرواية عن علي بن إبراهيم: فأسلمت خديجة (رضي الله عنها)، فكان لا يصلي إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وخديجة (رضي الله عنها) خلفه فلما أتى لذلك أيام دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر صِل جناح بن عمِك فوقف جعفر من الجانب الآخر وصلى عن يساره، وحينها قال أبو طالب لابنيه علي (عليه السلام) وجعفر (عليه السلام):
إن علـــــــياً وجـــــــــعفرَ ثقتي عند مـــــلم الخطـــوب والكرب
والله لا أخـــــــــذل النــــبي ولا يخذله مـــن بـــــــني ذو حسب
لا تخذلا وانصــــرا ابــن عمكما أخي لأمــــــي مـن بينهم وأبي
قال ابن إسحاق في تسمية السابقين إلى الإسلام: وجعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) وامرأته أسماء بنت عُميس، وقال بن سعد: أسلم جعفر بن أبي طالب قبل أن يدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) دار الأرقم ويدعو فيها (طبقات بن سعد: ج 4 ص 23)، وقال اليعقوبي في تاريخه: وأمره الله عز وجل أن ينذر عشيرته الأقربين - إلى أن قال - وأسلم يومئذ (أي يوم إنذار العشيرة) جعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث وأسلم خلق عظيم وظهر أمرهم وكثرت عدتهم وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين فأخذت قريش من استضعفت منهم إلى الرجوع عن الإسلام والشتم لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
لقد كان جعفر - إذن - من السابقين للإسلام وكان ملازماً لرسول الله ملازمة الظل يرقب أفعاله وتروكه ويسمع أقواله وعظاته ويبصر أعماله وحكمه ويقتص أثره منذ أن كان يصل جناح الرسول الأيسر في الصلاة بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) وخديجة الكبرى (رضي الله عنها).
الهجرة إلى الحبشة..
لما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) ما حل بأصحابه من جهد وبلاء أمر المستضعفين منهم بالهجرة بدينهم إلى الحبشة مرة أخرى وكان اختيار الحبشة داراً لهجرة المسلمين خطوة موفقة من خطوات الرسول. ولم يكن انتداب جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) لهذه المهمة العظيمة أمراً اعتباطياً ولعل ما روي من إسلام النجاشي وغيره من الأحباش على يد جعفر مما يؤكد هذا الأمر. وهذه الهجرة الثانية لم تكن كسابقتها حيث ازداد عدد المهاجرين بنسبة ازدياد المسلمين أولاً وشدة إيذاء قريش لهم ثانية حتى بلغ عدد المهاجرين هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة وأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يكون جعفر بن أبي طالب أميرهم ورئيسهم. ينظم أحوالهم ويشرف على شؤونهم علماً أنه كان أصغر الرجال المهاجرين سناً ولكن الرسول اختاره لأنه كان أرجحهم عقلاً وأوسعهم إحاطة بأحكام الإسلام ومبادئه كما كان أعظمهم شجاعة وكانت معه زوجته أسماء بنت عُميس وحين أزمع جعفر على الرحيل مع المهاجرين خرج النبي لتوديعه ودعا له بهذه الكلمات:
(اللهم الطف به في تيسير كل عسير فإن تيسير العسير عليك سهل يسير، أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة)، وعندما رأت قريش أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة قرر زعماؤهم أن يبعثوا في طلبهم رجلين قديرين إلى النجاشي لكي يردوا المهاجرين فمارسوا معهم من جديد الفتنة والاضطهاد واتجه الوفدان عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى الحبشة وهما يحملان الهدايا للنجاشي ولبطارقته وحين رأى أبو طالب ذلك بعث للنجاشي أبياتا يحضُهُ فيها على حسن جوارهم والدفع عنهم قائلاً له:
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر وعـــــمرو وأعــداء العدو الأقارب
فهل نالــــــت أفعال النجاشي جعفرَ لأصحابه أو عـــــــاق ذلك شــاغب
تعلم أبيت اللـــــعن أنـــــــك مـــاجد كريم فلا يشــــــقى لديـــك المجانب
تعلمّ بــــــــأن الله زادك بســــــــطةً وأســـــــباب خـــــير كلها بك لازبُ
وإنك فيــضٌ ذو ســـــــجال غزيرةٍ ينال الأعـــادي نفـــــــعها والأقاربُ
وحط عمرو بن العاص وصاحبه رحالهما بالحبشة وقابلا الزعماء من القساوسة والبطارقة ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها إليهم. ثم أرسلا للنجاشي هداياه ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين ويستنجدان بهم لحمل النجاشي على إخراجهم من بلاده وكان عمرو بن العاص قد أقنع البطارقة - وهم قواد الجيش - بأن هذا الدين الجديد سيقضي على نصرانيتهم إذا ما سمحوا له بالانتشار واتفق معهم على أن يقنعوا الملك بتسليم هؤلاء المهاجرين إلى قومهم ولا يكلمهم فإن قومهم أعلم بهم وأعلم بما عابوا عليهم.
وتحدد يوم اللقاء مع النجاشي وفي مجلسه الذي يسوده الهدوء والوقار. جلس النجاشي على كرسيه العالي تحف به الأساقفة ورجال الحاشية وجلس أمامه المسلمون المهاجرون تزدانهم السكينة ويطمئنهم الإيمان بوعده تعالى. وعندها اتجه عمرو ورفيقه إلى النجاشي وعرضا عليه طلبهما بتسليمهما المهاجرين. وقالت البطارقة من حوله صدقا أيها الملك، قومهم أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما.
غضب النجاشي وقال: لا والله إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أوعدهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولون أسلمهم إليهما، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
وما لبث النجاشي أن سأل المهاجرين عن طبيعة الدين الذي دفعهم إلى مفارقة قومهم، فتقدم جعفر بن أبي طالب ليؤدي المهمة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اختاره لها وبكل هدوء ورباطة جأش، قال: (أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فطلب منه النجاشي أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) عن الله تعالى، فقال له: (هل معك مما أنزل على رسولكم شيء)، قال جعفر: نعم، قال أي شيء: فاقرأه عليّ، انبرى جعفر يتلو عليه آيات من سورة مريم بكل خشوع فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت مصاحفهم، ثم أخذ يكفكف دموعه ويقول لمبعوثي قريش: إن هذا والذي جاء به عيسى (عليه السلام) ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما.
لكن عمرو بن العاص لم ييأس وعاد إلى النجاشي ليجرب حظه مرة أخرى، قائلاً له: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه فاستدعاهم وسألهم، فأجابه جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله) هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فتناول النجاشي عوداً، وقال: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود، ثم التفت صوب حاشيته وقال وسبابته تشير إلى مبعوثي قريش: ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها. فغادر عمر ورفيقه أرض الحبشة عائدين إلى مكة.
وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة لابثين فيها حتى يأذن الله لهم بالعودة إلى رسولهم وإخوانهم وديارهم.
•• النجاشي يُسلم..
أثر محاولة قريش الفاشلة لاسترجاع المهاجرين تعززت مكانة المسلمين المهاجرين ولاسيما جعفر (رضي الله عنه) عند النجاشي، حيث تجلت شخصيته الرصينة ومنطقه الفياض وحسن أدبه وأخلاقه، أخذ النجاشي يلتقي جعفرَ بين الحين والآخر فتتجلى له في كل يوم ملكاته وخصائصه العالية أكثر فأكثر، فرأى النجاشي فيه صورة مثلى متجسدة للدين الإسلامي، ولا عجب في هذا فشهادة النبي (صلى الله عليه وآله) صريحة بحقه لما قال له: (يا جعفر أشبهت خَلْقي وخُلُقي).
استطاع جعفر بما أوتي من منطق رصين ورجاحة عقل أن يجذب النجاشي إلى الإسلام، وما هي إلا فترة يسيرة حتى أسلم النجاشي ولكنه كتم إسلامه لئلا يبطش به قومه ويثورون عليه. ومرت سنين على جعفر (رضي الله عنه) وأصحابه في الحبشة وكانت الأخبار تترى عليهم بانتشار الإسلام وتوطيد أركانه بعد أن تجاوز مرحلة الخطر وأصبح له كيان في المدينة وكانوا يتابعون أنباء الانتصارات واحدة تلو الأخرى وقد امتلأت نفس جعفر روعة بما سمع من أبناء إخوانه المؤمنين الذين خاضوا تلك المعارك المظفرة وكان يتلهف شوقاً إلى إخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان ينتظر الشهادة ليلتحق بذلك الركب المبارك وفعلاً أقبل من الحبشة سنة 7هـ بالوقت الذي كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يعيش فرحة الانتصارات على أعداء الله بعد أن فتح الله عليه خيبر.
ولما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) استبشر بقدومه وضمه إليه وقبّل ما بين عينيه، وقال: (ما أدري بأيهما أسر بقدوم جعفر أم بفتح خيبر).
الشهادة
بعد الانتصارات الإسلامية الكبيرة أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) يرسل الدعاة إلى أطراف الجزيرة العربية داعين مبشرين إلى الله، وقد أرسل سنة 8هـ الحارث بن عمير الأزدي إلى بلاد الشام فقتله شرحبيل بن عمر الغساني الذي كان عاملاً للروم في بلاد الشام، وما أن وصل الخبر إلى مسامع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أعد جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ووجّههُ إلى البلقاء في بلاد الشام واستعمل عليهم جعفرَ (رضي الله عنه) مع زيد بن حارثة (رضي الله عنه) وعبد الله بن رواحة (رضي الله عنه). فمضى الناس معهم حتى كانوا بنحو البلقاء فلقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها واقتتلوا قتالاً شديداً وكان اللواء يومئذ مع زيد بن حارثة فقاتل حتى استشهد فأخذه جعفر فقاتل قتالاً شديداً ثم اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها وقاتل، وكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر فرسه في الإسلام وأثناء ذلك أصيب جعفر بإصابات عديدة من رماح وسهام الروم فكان ينتزع السهم تلو السهم من جسده غير مكترث بآلام الجراح ولا مبالٍ بدمائه الزكية التي تسيل من جراحاته، وكان يتطلع في تلك الساعة إلى لقاء الله والفوز بنعيمه فكان يرتجز ويقول:
يا حبـــــذا الجـــــــنة واقترابها طيــــــبةً وبـــــــاردٌ شــــرابها
والروم رومٌ قــــد دنـــا عذابها كافـــــرة بعـــــــيدة أنســـــابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
يقول المؤرخون: أن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه)، أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتل، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء.
وفي طبقات ابن سعد عن ابن عمر أنه قال: وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح.