7 محرم الحرام 1438 - 10/10/2016
تعريب: علاء الكاظمي
على أعتاب حلول شهر محرّم الحرام 1438, وذكرى استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه, وكالسنوات السابقة, ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله كلمة قيّمة بوفود العلماء والفضلاء والمبلّغين والخطباء, الذين وفدوا على بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة, يوم الأربعاء الموافق للسادس والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام 1438 للهجرة (28/9/2016م), للاستفادة من توجيهات سماحته فيما يخصّ القضية الحسينية المقدّسة.
إليكم نصّ الكلمة القيّمة لسماحته دام ظله:
الهدف من النهضة الحسينية
في خطبته المعروفة، بيّن الإمام الحسين صلوات الله عليه أهداف نهضته، وقال: (أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب عليهما السلام).
نحن على أعتاب شهر محرم وشهر صفر، شهري العزاء والحزن والشعائر الحسينية المقدّسة. وفي هذين الشهرين، أمران لهما أهميّة أكثر، وهما: تبليغ الإسلام، ويعني يجب إيصال تعاليم الإسلام وأوامره ونواهيه إلى الجميع، ولإتمام الحجّة على الجميع. والثاني: إقامة الشعائر الحسينية المقدّسة بكافّة أشكالها في كل بقعة من بقاع الأرض.
علماً أن الأمرين المذكورين، أي تبليغ الإسلام وإقامة الشعائر، يجب العمل بهما في طول السنة، أيضاً. ولا ننسى بأننا مسؤولون بهذا الصدد، حيث قال نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله: (كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
الجدّ في التبليغ
كما بيّنا، أن الهدف من التبليغ هو إتمام الحجّة على الجميع، ولا إجبار على الناس في أن يقبلوا ذلك، فالقرآن الكريم يقول: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ».
من خصائص هذين الشهرين، هو أنه يجب أن نكون أكثر جديّة في تبليغ الإسلام، وأن نؤكّد عليه أكثر. والمقصود من الإسلام هو الإسلام الحقيقي لا الصوري المتظاهر بذلك، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه انتباهاً خاصّاً، ونعرف جيّداً أن المعصومين صلوات الله عليهم، بالأخصّ مولانا الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، قد حذّروا كراراً بقولهم: «لا يبقى من الإسلام إلاّ اسمه».
قد يسأل أحدنا: هل هذا الإسلام الصوري هو الذي وقع بعد استشهاد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله؟ أم بعد استشهاد الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه؟ أم الإسلام الذي نراه اليوم وفي عصرنا الحالي؟
معايير الإسلام الحقيقي والأصيل
لا شكّ أن قول المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم وعملهم وتقريرهم هو الملاك والمعيار، وقد حكم اثنان منهم صلوات الله عليهم، أي رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وبيّنوا للعالمين، عبر حكومتيهما، الإسلام الحقيقي والخالص البعيد عن كل شائبة، وهذا ما سجّله التاريخ. فيجب على المبلّغين أن يبلّغوا هذا الإسلام ويوصلوه للجميع، حيث يجب علينا جميعاً أن نعرف أن الإسلام هو للعالم كلّه، كما ذكر ذلك القرآن الكريم كراراً، ومنها قوله تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا». فلماذا البشرية اليوم وهي قرابة سبعة مليار نسمة، ليسوا بمسلمين؟ وما هو دليل ذلك؟ وأين تكمن المشكلة؟
الجواب على ذلك واضح، لأن قرابة خمسة مليار إنسان في العالم لم يعرفوا الإسلام، وفي الدول المتسمية بالإسلام لا تجد فيها سوى اسم الإسلام، وهذا سببه هو عدم وجود التبليغ وعدم وصول الإسلام الحقيقي المحمّدي والعلوي للعالمين. وإن سمعوا اسم الإسلام أو رأوا عنه علامة فهذين لم يكونا بمستوى يوصلهم للاعتقاد به واليقين. فيجب أن لا نغفل عن هذه المسألة وهي يجب إيصال الإسلام إلى الدنيا كلّها، بشكل يوجب تصديق الناس به، وعندها هم أحرار في أن يقبلوا ويؤمنوا به أو لا ويختاروا الكفر، والعياذ بالله.
توفير إمكانات التبليغ
في زمان، كانت الفعاليات التبليغية غير ممكنة أحياناً، ولكن الوضع اليوم قد تغيّر، وتوجد إمكانية بهذه الصدد. بلى هذا العمل فيه تعب، ويتطلّب همّة أكثر. فيوجد في عالم اليوم قرابة مائتين دولة، صغيرة وكبيرة، وفي قرابة مائة وخمسين منها توجد نسبة من الحرية لتبليغ الإسلام، والناس يستمعون، وهذا الأمر يمكن ممارسته عبر الخطابة والفعاليات التبليغية الفردية والجماعية، عبر القنوات الفضائية وعبر التلفاز، ويمكن عبر الوسائل المسموعة والمرئية والمكتوبة أيضاً. وهذا ما يجري ونراه حالياً ولكنه قليل وضعيف. بلى إنّ الله تبارك وتعالى سيثيب الساعين والعاملين في هذا السبيل وسيؤجرهم عليه، ولكن هذا الكمّ من العمل لا يتناسب ولا يتلاءم مع الأمر الإلهي: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا». فيجب على كل واحد منّا، قدر استطاعته وإمكانه، أن يمتثّل للأمر الإلهي المذكور الذي خوطب به أولاً مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو يشمل سائر المسلمين أيضاً، وعليهم أن يمتثلوا له.
بهذا الصدد، طائفتان يتحملّان مسؤولية أكبر، وهم العلماء والحكّام. لأن العلماء قد عرفوا الإسلام ويعرفونه، وقد اتخذهم الناس قدوة ومرشدين، ورضوا بهم. والحكّام بيدهم القدرة والحكومة والثروات.
التبليغ اليوم غير كاف
يجب أن نعلم، أنه وبالنظر إلى عدد الدول الموجودة في العالم اليوم ووجود نسبة الحريات فيها للتبليغ، اننا لم نعمل كثيراً، ولم يتم العمل الكافي في تبيين الإسلام الحقيقي وبما يناسب خطاب الله سبحانه وتعالى: (ياأيها الناس). فلو افترضنا أنه يوجد في العالم مائتين دولة ومنها ثلاثين دولة إسلامية، ولكل واحدة من هذه الدول الإسلامية ممثّلاً عنها في العالم، فسيكون عدد الممثّلين باسم المسلمين ستة آلاف ممثّلاً، ولكل واحد منهم موظّفين، وإذا كان لكل ممثّل عشرة موظّفين، فسيكون عدد المثقّفين أو الممثّلين عن الدول الإسلامية في أرجاء العالم هو ستين ألفاً، وهؤلاء لديهم القدرة والإمكانات والثروات. فلماذا نرى البطء في تقدّم الإسلام، ولا نرى السرعة في ذلك؟ فأين المشكلة؟ ومن هو المسؤول؟ فالويل لنا إن صرنا يوم القيامة مصداق الآية الكريمة التالية: «وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ». فعلينا أن ننتبه بأن لا نكون يوم القيامة ممن لم يعمل بمسؤوليته. وعلينا أن نستجير بالله تعالى من مصداق الآية الكريمة الآنفة الذكر، ومن حالة عدم تبليغ الإسلام في الدنيا بشكل لائق وبصورة مناسبة. وعلينا أن نعلم جيّداً أنه في إطار إسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وإسلام الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، لدينا الجديد والجميل من القضايا.
إسلام علوي أم؟
ذكرت المصادر التاريخية ومنها موسوعة بحار الأنوار الشريفة أنه: جاء ذات يوم أبوذر عند أحد الحكّام، من الذين اغتصبوا خلافة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه من بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله، فرأى أنه جيء لذاك الحاكم بخراج إحدى الدول الأفريقية وكان قرابة خمسمائة ألف دينار، وذكروا أنه كان أكثر من ذلك، أيضاً.
عندما رأى أباذر هذه الأموال، سأله معترضاً: ما أنت فاعل بهذه الأموال؟
أجابه: أنتظر أن يأتيني المزيد من هذه الأموال كي ألبّي بها رغباتي ولما أريد.
فقال أبوذر: أتذكر أنه حضرنا أنا وأنت معاً ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فوجدناه مهموماً ومغتمّاً، فخرجنا من عنده دون أن نقول له شيئاً، وجئناه في اليوم التالي، ووجدناه غير مهموماً، وسألناه عن سبب غمّه وهمّه في اليوم السابق، فقال صلى الله عليه وآله: كان قد بقي عندي درهمين، ولم أجد من يستحقّهما، ولكن اليوم وجدته وأعطيته الدرهمين.
إنّ إراءة هكذا نماذج مشرقة من الإسلام المحمدي والإسلام العلوي إلى العالمين، لا شكّ ستنال إعجاب العالمين وتجذبهم إلى الإسلام.
حكومتا الرفاه والعيش الكريم
ففي حكومتي نبيّ الإسلام والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما، لم يعش إنساناً بلا سكن، ولم يبقى فتى أعزب ولا فتاة عزبة بسبب الفقر والحاجة، سوى أصحاب القوافل الذين كانوا يبيتون في بعض البيوت والغرف التي كانوا يستأجرونها للأيام التي يقضونها في المدينة أو في الكوفة، وكانت هذه البيوت والغرف لبيت مال المسلمين وكانت أموال استئجارها تصرف على المحتاجين. وأما بالنسبة لبقاء درهمين عند رسول الله صلى الله عليه وآله واغتمامه لعدم وجود من يستحق أخذهما، فهذه حدثت لمرّة واحدة في حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله. فرسول الله صلى الله عليه وآله الذي خاطبه الله تعالى بقوله: (لولاك لما خلقت الأفلاك) و(وما خلقت سماء مبنيّة ولا أرضاً مدحيّة) هكذا بقي مهموماً ومغموماً لأنه لم يجد من يستحق أخذ الدرهمين. وهذا ما يجب أن يعرف العالم كلّه، ويجب أن نعرض للجميع، أيضاً، الإسلام الحقيقي الخالي والنظيف من الانحراف والإعوجاج، ويجب أن يعرفوا هذا الإسلام.
من المؤسف ان الكثير يسيؤون باسم الإسلام، ولا يضرّهم أن يكونوا هم سبب عرض هكذا إسلام سيئ. فعلى سبيل المثال: قبل عدّة سنوات كتبت صحيفة إحدى الدول الإسلامية أن رئيس الجمهورية قد كذّب لحد كتابة الخبر في الصحيفة أربعة آلاف كذبة! ولا يخفى ان مثل هذه المطالب تنتشر سريعاً في العالم، وتخدش في جاذبية الإسلام، وسوف لا يبقى دليل لغير المسلمين بأن يسلموا عند سماعهم لهكذا أخبار. ففي سبيل تبليغ الإسلام، يجب على الجميع، كل حسب استطاعته، وبعنوان واجب مطلق، عليه أن يهيّئ مقدمات وجود التبليغ، ولا يستسلم للتعب ولا للمشاكل، بل عليه أن يتحمّل الصعوبات والمشكلات.
نظرة إلى التاريخ
كتبوا في التاريخ قصص وحوادث كثيرة. فمثلاً كتبوا أنه: سنوياً كان يصل لمعاوية من خراج وضرائب مصر فقط قرابة ثلاثة مليون دينار ذهب، أي ما يعادل عشرة طنّ من الذهب الخالص، وكان العالم الإسلامي حينها، أي في زمن حكم معاوية لعنة الله عليه، قد امتدّ إلى قرابة أربعين دولة. وكتب أتباع معاوية ومحبّيه في المصادر التاريخية ان معاوية كان يأخذ له شخصياً من هذه الأموال الثلث.
لو رجعنا إلى التاريخ وبالتحديد في حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، نرى أنه كان يأتي مثل هذا الخراج وبنفس المقدار والكمية، ولكن كان التصرّف معها مختلفاً. فقد كتب التاريخ انه كان يوجد في الكوفة ميدان كبير (ساحة) وكان الناس يتردّدون فيه ويمارسون البيع والشراء. وكان الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، أحياناً، يقسّم أموال بيت مال المسلمين في هذا المكان. يقول الراوي: دخلت الرحبة (أي الميدان المذكور) ورأيت عليّاً صلوات الله عليه وأمامه كمية من ورد القرنفل، كان قد وصله من المدن التي كانت ضمن رقعة حكومته صلوات الله عليه. وبما ان القرنفل هو ورد معطّر، كان الصبيّات يصنعن من حبّاته قلادة ليضعنها في رقبتهنّ. فجاء رجل من أقارب الإمام صلوات الله عليه إلى الإمام وقال له: أعطني كم حبّة من هذا القرنفل لابنتي كي تصنع منها قلادة. فاستخرج الإمام صلوات الله عليه درهماً من جيبه وأعطاه للرجل وقال له: خذ هذا الدرهم، هو من مالي الخاص، وبعد أن أنهي تقسيمي للقرنفل بالسوية على المسلمين، إن زاد منه شيئاً سأعطيك سهمك منه حتى تصنع منه ابنتك قلادة لها.
هذه هي طريقة حكومة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، والإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، وبهما نرفع الرأس ونفتخر على العالمين، ونقول لهم: إنّ إمامنا صلوات الله عليه كان في البدء يلبّي احتياجات عامة الناس والمسلمين من بيت مال المسلمين، كالزواج، وتوفير السكن، وعلاج الأمراض وما شاكل ذلك، وإن زاد من الأموال شيئاً، كما كان يحدث لمرّات عديدة في سنة واحدة، كان يحسب هذا الزائد عطاء، فكان يقسّمه، وكان صلوات الله عليه يأخذ منه بمقدار ما كان يعطى لقنبر، وهو صلوات الله عليه وكما قال الله تعالى ونبيّه الكريم، هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله بالحقّ. وكان طلحة والزبير يمتعضان لصنع أمير المؤمنين صلوات الله عليه معهما في المساواة بينهما وبين غيرهما من المسلمين في العطاء، وناقشا أمير المؤمنين صلوات الله عليه في ذلك، ولكن الحق كان أقوى منهما، وأولى بالاتباع في منطق أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
نقل في (مناقب آل أبي طالب) عن أبي الهيثم بن التيهان، وعبد الله بن أبي رافع قالا: إنّ طلحة والزبير جاءا إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه وقالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر.
قال صلوات الله عليه: فما كان يعطيكما رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فسكتا!!
قال صلوات الله عليه: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقسّم بالسوية بين المسلمين؟
قالا: نعم.
قال صلوات الله عليه: فسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله أولى بالاتّباع عندكم أم سنّة عمر؟
قالا: سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله.
مثل هذه الأمور والحقائق لم تصل للعالمين ولا حتى للمسلمين كلّهم، ومسؤولية هذا الأمر وإبلاغه للناس كافّة تقع على عاتق العلماء والحكّام، ومسؤولية العلماء في هذا المجال هي أكبر، ومع وجود الحريات سينال عملهم في هذا المجال الموفقيّة.
أهميّة وتأثير العلماء
لا شكّ، إنّ استقلال العلماء وحريّتهم في الفعاليات المرتبطة والخاصة بعملهم كرجال دين، يجعلهم ينالون الموفقية بنحو أفضل وأكبر وأكثر.
على سبيل المثال: في فترة من زمن الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه، كان العراق فيه نسبة من الحريّة. وكانت نسبة الشيعة في بغداد بمقدار عشرة بالمائة أو أقلّ، ولكن وكما شهد التاريخ أن الشيخ المفيد كان يقيم صلاة عيد الغدير جماعة في مدينة الكاظمية المقدّسة، وكان يقتدي به الألوف، وأكثرهم ليسوا شيعة.
لذا إن كان العالم التقي الورع يتمتع بحرية بالعمل، فهذا يعني توفّر مجال موفقيته بالعمل. وبالمقابل إن لم تتوفر حريّة العمل، فحتى الإمام المعصوم صلوات الله عليه لا يتمكّن من فعل شيء.
ذكرت الروايات أن المنصور الدوانيقي نفى الإمام الصادق صلوات الله عليه إلى الحيرة (في أطراف مدينة النجف الأشرف وهي حالياً كقرية). وقال الراوي: ذهبت إلى الحيرة للقاء الإمام، فحضرت عنده، فكان صلوات الله عليه يصلّي. وبعد أن فرغ من صلاته، سلّمت عليه، وقلت له: العالم بحاجة إليكم، فلماذا أنتم هنا في الحيرة؟
قال صلوات الله عليه: ما عساي أن أفعل؟
هذا القول من الإمام يعني أنه صلوات الله عليه كان تحت الإقامة الجبرية، وممنوع من العمل، ولا يمكنه أن يقوم بأي عمل؟
بلى، إنّ لفظ العلماء لا ينحصر أو لا يصدق على مراجع التقليد فحسب أو على أساتذة بحث الخارج وعلى الحوزويين، بل يصدق على كل من له نسبة من معرفة الإسلام، حسب ما تعلّمه وعرفه وحسب مستواه العلمي، وكل مسؤول في هذا المجال بنسبة مستوى معرفته وعلمه وتعلّمه.
مشهد تاريخي مؤلم
جاء في التاريخ أن: المأمون العباسي بعث أحد جلاوزته وهو الجلودي، إلى بيوت آل أبي طالب عليه السلام، لكي ينهب من رحل حرائر وودائع رسول الله صلى الله عليه وآله اللاتي كنّ في تلك البيوت.
أوعز إليه أن يغير ويهجم على دور آل أبي طالب في المدينة ، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلل، ولا يدع على واحدة منهنّ إلاّ ثوباً واحداً. وحاول الجلودي أن ينفّذ الأمر بنفسه، فهجم على دار الإمام الرضا صلوات الله عليه بخيله، فلمّا نظر إليه الإمام جعل النساء كلهنٌ في بيت واحد، وكانت السيدة المعصومة عليها السلام إحداهنّ. ووقف الإمام على باب البيت يمنع الجلودي وجنده من اقتحامه. فقال الجلودي: لا بد من أن أدخل البيت فأسلبهنّ كما أمرني أمير المؤمنين. فقال الإمام الرضا صلوات الله عليه: أنا أسلبهنّ لك، وأحلف أن لا أدع عليهنّ شيئاً إلاّ أخذته. فلم يزل الإمام يطلب إليه ويحلف له، حتى سكن الجلودي ووافق على طلب الإمام. فدخل الإمام فلم يدع عليهنّ شيئاّ إلاً أخذه منهنّ حتى أقراطهنّ وخلاخيلهنّ واُزرهنّ، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير.
كما ذكرهذا التاريخ نفسه ان هارون (أبو المأمون) تزوّج بزبيدة وصرف على زواجه منها أكثر من خمسة عشرة طنّاً من الذهب الخالص.
سلسلة الجرائم
إنّ الغارات التي تحدث في بعض الدول الإسلامية وكذلك الجرائم المخطّط لها، هذه كلّها ناشئة من تلك الحكومات التي كانت تدّعي ظلماً وزوراً بالإسلام، في حين أن تصرّفات وأعمال تلك الحكومات تختلف بل وبعيدة عن أسلوب وطريقة رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، كبعد السماء عن الأرض.
أليس من المؤسف أن نرى في بغداد اليوم شارعاً باسم (الرشيد)؟ وهذا هارون الذي لم يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله في سيرته المشرقة والنظيفة ولا في أقواله وتصرّفاته صلى الله عليه وآله؟!
أما رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، كانا يتوخّان الدقّة والحذر في حقّ الناس، بحيث ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يغتمّ لدرهمين بقيا من بيت مال المسلمين، وكم حبّة من ورد القرنفل كانت تعطي تلك الردّة من الفعل للإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ولكن هارون وأمثاله كانوا أسخياء في صرف بيت مال المسلمين على شهواتهم. فالمساكين هم من يتبعون نهج هارون وعامّة بني العباس، ويصفون زمن حكم هارون بـ(العصر الذهبي)!
كتب التاريخ ان المتوكّل العباسي بنى عدّة قصور كلّفت بيت المال قرابة خمسمائة طنّاً من الذهب. وهذا المتوكّل لم يقصّر في عدائه وظلمه وإجرامه بحقّ أهل البيت صلوات الله عليهم، وبأمره قاموا بهدم القبر الطاهر للإمام الحسين صلوات الله عليه الذي كان في ذلك الزمن في حجرة أو حجرات مبنية من الطين، وسجن زوّار الإمام الحسين صلوات الله عليه وعذّبهم بل وقتل منهم أيضاً.
على المسلمين اليوم، أن لا يقصّروا ولا يتوانوا في إيصال مثل هذه الأمور إلى البشرية كلّها، وإلاّ فسوف يكونون غير معذروين. فيجب أن تعرف الدنيا كلّها سيرة وطريقة وحياة رئيسي الحكومة الإسلامية، أي مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. فتبيين هذه الأمور للعالمين، يعلّمهم التمييز بين الحقّ والباطل، وأنسب وأفضل فرصة لأداء هذه المسؤولية هو شهر محرم وشهر صفر.
ذكرت مصادر عديدة ومنها بحار الأنوار أن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يأكل قطعة صغيرة من اللحم في يوم واحد من السنة، وهو في يوم عيد الأضحى عندما يأكل جميع المسلمين اللحم. في حين ان الروايات الشريفة تؤكّد أنه ليس من المناسب أن يترك الإنسان أكل اللحم أربعين يوماً. ولكن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه وبناء على ما كان على عاتقه من مسؤولية كان لا يأكل اللحم طول السنة، خلا يوم عيد الأضحى، لكي يواسي الضعفاء والمحرومين. فقد قال صلوات الله عليه: «إنّ الله تعالى فرض على أئمة العدل، أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره». وفي موقف آخر قال صلوات الله عليه أنه يجب أن تكون أوضاع الحاكم أقلّ من أوضاع الضعفاء في ظل حكومته.
ذات مرّة قال بعض الأصحاب للإمام الصادق صلوات الله عليه: لو كان ذلك (أي الحكم والسلطة) لكم لكنّا فيه معكم. فقال الإمام الصادق صلوات الله عليه: يامفضّل أما لو كان ذلك لم يكن إلاّ سياسة اللّيل وسياحة النهار، وأكل الجشب، ولبس الخشن، شبه أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
تذكير مهمّ
قال مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه عندما عزم على الخروج إلى العراق: (إريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب) صلوات الله عليهما وآلهما. فحال الأعداء دون تحقّق هذا الهدف، وقتلوا الإمام صلوات الله عليه، ومن المؤسف له ان المعتقدين بالإمام صلوات الله عليه وأتباعه تنحّوا جانباً ولم يقدّموا أيّة نصرة. وهذه المسؤولية لم تنتهي، بل هي على عاتقنا نحن المسلمون، ولذا يجب علينا أن نهيّئ مقدمات وجود ذلك، كل حسب قدرته.
نشر الشعائر الحسينية المقدّسة
الأمر الثاني هو حول شهري محرم وصفر، وأنه يجب الاستفادة من موسم العزاء والمصيبة، والسعي في طريق تحقيق أهداف أهل البيت صلوات الله عليهم، بالأخص أهداف النهضة الحسينية. فإنّ الله تعالى هكذا أراد للقضية الحسينية، وهكذا أرادها راسخة وشامخة. وكذلك شجّع الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم على إحياء الشعائر الحسينية المقدّسة. ولذا يجب إبقاء هذا الشعائر حيّة وفاعلة أكثر، فإذا رأيتم الضغوطات عليها في مكان ما من العالم والموانع، فاعلموا أنها في أماكن أخرى لا ترى ذلك. فيجب تحمّل الضغوطات، وهذه من خصائص قضية الإمام الحسين صلوات الله عليه.
من الأمور الخاصّة بهذا الصدد، ما ذكر في كتاب (الكامل في الزيارات) الشريف والثمين. فقد كتب العلاّمة الأميني رضوان الله تعالى عليه حاشيته على هذا الكتاب القيّم قبل قرابة ثمانين أو تسعين سنة، وتم طبعها طباعة خطّية. وكانت حواشيه مختصرة، لكن أكثرها تفصيلاً هو ما كتب بأن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجازوا إزهاق النفس في سبيل الشعائر الحسينية المقدّسة. وأما في مسألة الحجّ فالأمر يختلف، حيث أنه يجب توفّر شرط وجود الأمن في طريق السفر إلى الحجّ، فإذا وجدت مشكلة في طريق الحجّ أو موانع ما، فهذا يعني عدم الاستطاعة حتى لو كان الحاج ثرياً ومن أصحاب المليارات. وإذا ذهب المرء إلى الحجّ في أجواء وشرائط تخلو من الأمان فقط ولا تواجهه مشكلة أخرى، فحجّه باطل، كما قال بذلك الفقهاء. ولكن في طريق السفر إلى كربلاء، قطعوا أيدي الزائرين وأرجلهم، وقتلوهم، وكان الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم يشجّعون الناس على الذهاب إلى كربلاء.
مطلب آخر في المجلّد (44) من بحار الأنوار، من الجدير الاطلاع عليه، وهو: بعد استشهاد الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه، كتب الإمام الحسين صلوات الله عليه رسالة إلى معاوية، قال فيها: (فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره). فحسب الروايات الشريفة، وبالصمود والمقاومة أمام أمثال معاوية، وبناء على عمل المعصومين صلوات الله عليهم، يجب أن تكون الشعائر الحسينية المقدّسة أوسع وأكثر إظهاراً.
قال أحد الأصحاب الثقة للإمام الصادق صلوات الله عليه أني أخاف من ثلاثة عند ذهابي إلى زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه، أحدهم السلطان الذي يسمّي نفسه خليفة. وهذه القصة ترجع إلى زمن الأمويين والعباسيين، وهم وجهان لعملة واحدة. واعلموا ان كل حاكم يستلم السلطة والقدرة يعادي الإمام الحسين صلوات الله عليه والشعائر الحسينية ويكون بضدّهما.
أعداء القضية الحسينية
مثلاً في إيران، صار رضا خان البهلوي الأول عدوّاً وخصماً لمراسيم العزاء والمجالس الحسينية بشدّة في الخمس سنين الأخيرة من حكمه، بحيث لم يقام حتى مجلساً حسينياً صغيراً واحداً يتكوّن من إثنين أو ثلاثة معزّين، حتى في يوم العاشر من المحرّم. وقد عشنا التجربة في العراق بفترة حكم الملكيين إلى البعثيين. فعند حلول شهر محرم الحرام كان الناس يتحمّسون لعاشوراء، وكان أصحاب الحكومات ينفعلون ويصطفّون لمضادة الشعائر الحسينية، فكانوا يعتقلون الناس ويعذّبوهم، وينهبون ممتلكات الناس، وكان يفصلون حتى الموظّف من دائرته بحجج ما.
مثل هذه الحوادث والوقائع يجب جمعها بهمم الشباب المسلم والغيارى، بالأخص الشباب في إيران، عندها ستكون موسوعة من عشرين مجلّداً. وهذا العمل ليس عسيراً أو صعباً، فيمكن تحقيقه عبر الاستعانة من كبار السنّ بهذا المجال والسؤال منهم عن تلك الحوادث. فمن الملف للنظر أنه في الخمس سنوات الأخيرة من حكم البهلوي الأول أريقت دماء كثيرة، وعُذّب الآلاف من الناس، وصوردت ممتلكات الملايين من الناس، ومنها، مثلاً: إن كان الشرطة يشكّون ببيت يقيم العزاء الحسيني، كانوا يداهمون البيت ويعتقلون كل من فيه، كالخطيب، وصاحب البيت، والحاضرين، وكانوا قد أعدّوا حكماً بحق كل واحد من المعتقلين مسبقاً، وكانوا ينفّذونه بحقّه، إضافة إلى السجن والتعذيب.
الخلود الإلهي
ومن بعد استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه، ومن زمن البيعة ليزيد لعنة الله عليه وإلى يومك هذا، لا زلنا نرى مثل هذا التعامل مع القضية الحسينية في كل نقطة من نقاط العالم. فما سبب هذا التعامل؟ ومما يخافون؟ فهل يخافون من جزع الناس، أم من ضرب الناس أنفسهم لمصيبة الحسين صلوات الله عليه؟ فالجزع على فقدان الأحبّة سيّئ ومكروه، ولكنه محموداً على الإمام الحسين صلوات الله عليه لأنه استثني في هذا الخصوص. فقد أراد الله تعالى أن تبقى قضية الحزن على الإمام الحسين صلوات الله عليه شامخة وخالدة وحيّة. فقد أمر تبارك وتعالى جبرئيل عليه السلام أن ينزل إلى آدم على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام، فنزل وذكر له اسم رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين والسيدة الزهراء والإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليهم ولم يقرأ بحقّهم مصيبة، ولكن قرأ المصيبة عندما ذكر اسم الإمام الحسين صلوات الله عليه. وهذه خصيصة أرادها الله تعالى للإمام الحسين صلوات الله عليه. فقد أخبر مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذه الإرادة الإلهية، وقال: (وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً، وأمره إلاّ علوّاً).
قبل قرابة أكثر من عشرين سنة، قام النظام البعثي في العراق، بقصف الزائرين الحسينيين المشاة إلى زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليهم، وصنع مجزرة رهيبة، وكانت من نتائج هذه الجرائم مشاركة قرابة ثلاثين مليون إنسان في مراسيم الزيارة الأربعينية الحسينية المقدّسة وذهابهم مشياً على الأقدام إلى كربلاء من بعد تغيير النظام. وهذا هو ما أخبر عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، وهذه هي الإرادة الإلهية التكوينية للإمام الحسين صلوات الله عليه وقضيته.
عولمة القضية الحسينية
هذه القضية يجب أن تعولم، وتتسع، ويجب الاستفادة من أجواء الحريات الموجودة اليوم في أكثر من مائة وخمسين دولة في العالم، لتحقيق هذا الهدف. فإذا وجدت الحاجة إلى حسينية في مكان ما للشيعة ولأتباع ومحبّي أهل البيت صلوات الله عليهم، فيجب الهمّة لذلك ويجب تحمّل مشاكله. ولا ننسى أنه لخلود الشعائر والقضية الحسينيتين المقدّستين، قتل الكثير من الشيعة، وسجن الألوف منهم وعذّبوا في سجون وزنزانات مرعبة تحت الأرض لم يُرى مثلها حتى في نظام البعثيين. ففي زمن المتوكّل، كان الوضع بشكل يصعب فيه نقل المعتقلين إلى مركز المدينة، ولذا بنوا حجرات صغيرة جنب قبر الإمام الحسين صلوات الله عليه، كسجن يسجنون فيه الزائرين الحسينيين. ومع كل هذه الأمور، لم نرى، حتى في مورد واحد، أن الأئمة الأطهار صلوات الله عليه، قد نهوا عن زيارة الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه. فالإمام الهادي صلوات الله عليه كان معاصراً لحكم المتوكّل، ولم يصدر منه صلوات الله عليه أي نهيّ عن الزيارة.
القضية الحسينية امتحان
شيئان مرتبطان بقضية الإمام الحسين صلوات الله عليه، قديماً وحاضراً ودائماً، وعلينا أن نمتحن بهما أنفسنا.
الأول: قالت الروايات الشريفة: (إنّ لقتل الحسين عليه السلام حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً). فلنمتحن أنفسنا بهذا المجال ولنرى هل في قلوبنا هذه الحرارة، ونسعى للحفاظ عليها، حتى، إن شاء الله، نكون من المؤمنين.
بالمقابل، سعى ويسعى حكّام الجور إلى قمع القضية الحسينية والقضاء عليها، أو التقليل من مكانتها، وأحياناً ينجحون في مساعيهم، كما فعل البهلوي الأول في إيران الإسلامية، حيث رفع شعار المخالفة والمعادات للقضية الحسينية في الخمس سنوات الأخيرة من حكمه، بحيث اختفت المجالس الحسينية في ايران من العلن. وهكذا كان الأمر في زمن بني أمية وبني العباس، فكان هارون العباسي يعتقل الزوّار الحسينيين ويقتلهم. فكما ذكر التاريخ كان لهارون في بغداد، وللمأمون في سرخس، وللمتوكّل في سامراء بركة تسمّى بـ(بركة السباع) وكان فيها العشرات من الحيوانات المفترسة (السباع)، وعندما كان هارون يغضب على أحد من الناس، كان يأمر بإلقائه حيّاً في هذه البركة لتفترسه السباع.
من المسؤول عن تنزيه الإسلام؟
من المؤسف له ان تاريخ الإسلام صار مقروناً باسم هارون والمأمون والمتوكّل والمنصور ومن هو على شاكلتهم. فمن المسؤول في تنزيه أو تنظيف هذا الانحراف وهذا التاريخ؟ ومن المسؤول عن نصرة الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه؟ ولا يفوتنا أن نعرف أن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله دعا لمن ينصر عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، حيث قال: (اللهم انصر من نصره).
علينا جميعاً، نحن وأنتم، أن نحامي عن الإسلام المحمديّ والعلوي، وأن ننصره بالقلم والبيان والمال وبالمواقف والأدوار.
ذكر أحد ممن كان في كربلاء بالسنة الماضية: انطلقت جموع من الناس من بيوتهم إلى كربلاء مشياً على الأقدام، بعضهم ركباناً في سيارات النقل، وكانوا حفاة الأقدام. وهؤلاء يستحقّون الحمد حقّاً. وكان هناك اشخاص، يشكلون على الزائرين، جهلاً منهم أو غرضاً في أنفسهم، وكانوا يقولون ان الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم لم يأمروا بالمشي حفاة الأقدام، علماً انهم قد غفلوا عن ان الأئمة صلوات الله عليهم قد أمروا بذلك، وهذا موجود ومصرّح به في كتاب الكامل في الزيارات (ص132). فالذي لا يعلم بوجود مثل هذه الروايات أو يجهلها، فلنا كلام آخر معه. ولكن لنفرض أنهم لم يأمروا صلوات الله عليهم بهذا الأمر، فإنّهم صلوات الله عليهم قد قالوا: (علينا إلقاء الأصول، وعليكم التفريع).
لقد صرّح الأئمة صلوات الله عليه بعمومات الجزع على الإمام الحسين صلوات الله عليه وقالوا بجزئيته، وقالوا أنه يضمّ الشعائر الحسينية المقدّسة كلّها. وكتب أحد الفقهاء الأعلام رحمه الله في إحدى آثاره أن: (كل الشعائر الحسينية المقدّسة هي من مصاديق الجزع).
بناء على مشهور الفقهاء، لا إجماعهم، أنه لا يحقّ لأحد أن يزهق نفسه في طريق الشعائر الحسينية. ولكن إن فعل ما ينتهي به إلى إزهاق نفسه، فقد كتب العلاّمة الأميني في حاشيته على الكامل في الزيارات بذلك الخصوص، انه (قال جماعة من الفقهاء والمحقّقين أنه لا إشكال إن وصل إلى إزهاق النفس). ولكن هذه الفتوى ليست مشهور الفقهاء، والأئمة صلوات الله عليهم لم يمانعوا عن مثل هذه الأعمال. ففي العراق بالماضي، قتل الكثير من زائري الإمام الحسين صلوات الله عليهم، ولم يحرّم مراجع التقليد، آنذاك، زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه بسبب تعرّضهم للقتل في طريق الزيارة. فمن الواضح جدّاً، عندما يشجّع ويرغّب الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم الناس لزيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه، فسيتبعهم مراجع التقليد أيضاً.
ماهيّة التبليغ
مسؤولية المبلّغ هي أن يوصل الإسلام الأصيل المحمّدي والعلوي للمجتمع، لا الإسلام المتكوّن من حروف الألف والسين واللام والألف والميم فقط. أي لا الإسلام المقتبس من معاوية الذي يأخذ أكثر من ثلاثة أطنان من الذهب من بيت مال المسلمين من خراج إحدى الدول لنفسه، أو إسلام هارون الذي يسمح لهارون أن يصرف خمسة عشرة طنّاً من الذهب الخالص على زواج هارون، أو المتوكّل الذي يأخذ خمسمائة طنّ من ذهب المسلمين لنفسه ولشخصه. وبوجهة نظري ان ما سمّاه أمثال هؤلاء الحكّام وما روّجوا له هو لا إسلام ولا كفر، لأنه لا يوجد مثل هذه التصرّفات في البلاد الكافرة، وإذا مات أحد حكّام الدول الكافرة أو عزل من منصبه فإنّه لا يترك عنه ثروات خيالية.
قرأته في الصحف انه مات وزيراً في إحدى الدول الإسلامية وخلّف وراءه ثروة هائلة، بحيث كان (مقدارها كمّاً) يسع أن يملأ بها ملعب كرة القدم. ومن الأزمات الرئيسية اليوم في عالم الإسلام هي أزمة السكن، بحيث جعلت الملايين من الفتيان والفتيات يعجزون عن الزواج. فهل حقاً ان سبب هذه الظاهرة هو عدم التمكّن المالي؟ كلا، سببه الطمع والنهب من الحكّام. وهذه الحالة كانت موجودة في زمن بني أمية وبني العباس أيضاً.
إذن يجب عدم التهاون في التبليغ وفي توعية الناس، لكي لا نُواجَه بقوله تعالى: «وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» ونكون ممن لا حول له ولاقوة.
الاهتمام بالشعائر الحسينية المقدّسة
الأمر الآخر هي الشعائر الحسينية المقدّسة التي يجب أن لا نغفل عنها، وأن نشجّع الناس عليها ونرغّبهم إليها، كي تقام بأبهى مظاهرها وأكثر سعة ووسعة. فإن خلا مكان ما من حسينية، أو لا يمكن إقامة المراسيم الحسينية المقدّسة فيه، فيجب الاهتمام لذلك. وهذا العمل ممكن، وأكبر دليل عليه هي مراسيم الأربعين الحسيني في العراق. فأهل العراق، فيهم الألوف من أصحاب الدخل المالي القليل أو الضعيف، وكذلك من المعوزين، نراهم خرجوا من الامتحان والاختبار بشكل حسن ونالوا التفوق الجيّد، لأنهم في سبيل الإمام الحسين صلوات الله عليه وفي إحياء الشعائر الحسينين المقدّسة، باعوا كل ما لديهم من سكن ومأوى وسيارة التي تعتبر عند قسم منها مصدر دخلهم المالي ورزقهم، وصرفوها على الزائرين الحسينين. فالزائر الحسيني عندما يدخل العراق في موسم الزيارة بحاجة إلى توفّر الماء والغذاء والمكان للاستراحة، فيكون ضيفاً عند محبّي الإمام الحسين صلوات الله عليه أي أهل العراق إلى يوم الأربعين. وهذه الخدمات لا تأخذها على عاتقها لا حكومة مسلمة ولا تاجر ولا ثري بشكل كامل، سوى عدد قليل من التجّار، ولكن السهم الأكبر من هذه التكاليف والمصاريف هي على عاتق الفقراء.
واجبان للتذكير
واجبان أذكرهما للدنيا كلها وللحكومات الإسلامية وللتجّار المسلمين، وهي إن الإمام الحسين صلوات الله عليه لا يختصّ بالشيعة والمسلمين، وليس هؤلاء يحبّون الإمام الحسين صلوات الله عليه فقط. وأقول لمحبّي الإمام الحسين صلوات الله عليه إنّ زائري الإمام الحسين صلوات الله عليه في مناسبة الأربعين، بحاجة إلى أمرين عليكم بتوفيرهما:
الأول: وسائط النقل، والسكن في كربلاء وأطرافها. فالزائرون الحسينيون في هذه المناسبة الحسينية الكبيرة، بحاجة إلى الألوف من العمارات السكنية المتعدّدة والكثيرة الطوابق. وهذا الأمر لا يتمكّن عليه الفقراء، والأثرياء فقط هم الذين بإمكانهم أن ينفّذوا مثل هذه المشاريع.
جاءني ذات مرّة رجل في سن الخمسين برفقة ولده الذي كان يبلغ عمره عشرين سنة تقريباً. وكان وضعهما ضعيفاً، ولم يطلب منّي شيئاً، وقال: سعيت خلال ثلاث سنوات أن أجمع مالاً لأزوّج به ولدي. وبعد سقوط صدام، وتيسّر الزيارة للناس، بدأ الناس يتوافدون على كربلاء المقدّسة كالسيل. فتكلّمت مع ولدي وقلت له إن كنت تريد الزواج فسأحقّقه لك، ولكن هل توافقني أن أصرف ما جمعته لك من الأموال على الزائرين؟ فوافق على ذلك برضاه الكامل، وأعلن عن استعداده لاستضافة الزائرين أيضاً.
حقّاً إنه غير لائق أن لا يقدم المسلمون الأثرياء ولا الحكومات ولا باقي الأثرياء على عمل في هذا الصدد. ولكن ترى الضعفاء والفقراء على استعداد للخدمة وللإيثار! فلماذا لا تقام رحلات طيران مجانية في هكذا مواسم إلى المراقد المقدّسة؟ فالعقيدة بالإمام الحسين صلوات الله عليه موجودة، ولكن يجب تشجيع المتمكّنين بهكذا أعمال ومبادرات. فلماذا يبقى الزائر الحسيني بلا مأوى، وينام في الشارع تحت المطر؟ واعلموا ان خدمة الزائر له أجر وثواب كبيرين. فالملائكة الذين وصفهم القرآن الكريم بقوله تعالى: «لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ» يغبطون الزائرين الحسينيين، ويمسحون أجنحتهم بثياب الزائرين، ويبلّغونهم سلام رسول الله صلى الله عليه وآله.
توفير الخدمات لزوّار الأربعين
المهم هو يجب السعي وتشجيع الأثرياء والمتمكّنين بأن يهتمّوا كثيراً وبهمّة عالية في توفير وسائط النقل الجوية والبريّة والبحرية والحديدية بالمجان للزائرين الحسينيين في المراسيم الخاصة والمزدحمة بالأخص زيارة الأربعين. وإذا لم يتحقّق هذا التوفير فسيقوم به الآتين من بعدنا ولا يبقى لنا سوى الندم، وحينها لا يمكننا القيام بشيء.
ذكرت الروايات الشريفة انه إذا لم يصرف الإنسان أمواله في طريق الخير، فيصرفها هو أو ورّاثه في طريق لا يرضي الله تعالى، وسيكون وبالاً على صاحبه إن لم نقل ناراً. وهذا يجب إيصاله إلى العالمين، وأن يعرفوا هذه الثقافة وهذه التعاليم. وإذا لم يقبل بعض منهم بذلك، فالكثير منهم سيرضخون له. علماً أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يمنّ على الإنسان بالثروة والأموال، فمن الأفضل أن تصرف فيما يرتضيه الله تبارك وتعالى. فأحيوا القضية والشعائر الحسينيتين المقدّستين بأبهى صورة ممكنة وأكثر. فموائد الطعام الطويلة التي تمتدّ لكيلومترات في العراق يقوم ببسطها غالباً عامّة الناس ومن الطبقة المتوسّطة، فآجرهم الله.
السكن هي الحاجة الأخرى للزائرين الحسينيين، واليوم إذا دخل كربلاء (25 إلى 30) مليون زائر، ففي المستقبل سيدخلها (50 إلى 100) مليون زائر، وهؤلاء كلّهم بحاجة إلى سكن وأماكن استراحة. واعلموا ان زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه لها مكانة خاصّة ورفيعة. فقد ذكرت الروايات الشريفة: «إنّ الله يزور الحسين عليه السلام في كل ليلة جمعة»، وهذا يعني الرعاية والرحمة الإلهية الخاصّة بالإمام الحسين صلوات الله عليه. علماً ان الإمام الحسين صلوات الله عليه هو ليس بأعلى مرتبة من رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو صلوات الله عليه يفتخر بأنه ضحّى في سبيل دين جدّه، ولكن لا يوجد قول أو رواية تقول بأن الله تبارك وتعالى يزور رسول الله صلى الله عليه وآله، أو الإمام عليّ بن أبي طالب، أو السيدة فاطمة الزهراء، أو الإمام الحسن المجتبى، أو سائر الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.
إذن اسعوا في إقامة الشعائر الحسينية المقدّسة بأفضل وأحسن وبأعزّ ما يمكن.
إلتفاتة مهمّة
في الكرة الأرضية يوجد مكان باسم كربلاء والعراق، وكذلك آخر باسم ايران وناسه من الصالحين والمؤمنين والمحبّين لأهل البيت الأطهار صلوات الله عليه. وفي الدول الأجنبية يوجد مسلمون لهم مثل هذه الخصوصية أيضاً. وقرأت في إحدى وسائل الإعلام المكتوبة العربية أنه يوجد مكان تقام فيه سنوياً باسم الدين مراسيم خاصّة. وفي فترة إقامة هذه المراسيم تُلغى تأشيرة الدخول لهذا المكان ولا حاجة للجواز في السفر إليه. حتى السجين إذا أراد أن يحضر في هذه المراسيم فلا يُمنع ويُسمح بإعطائه رخصة للذهاب إلى ذلك المكان. فيجب العمل بمثل هذا العمل في السفر إلى المراقد المقدّسة. وبعبارة أخرى: يجب تسهيل السفر إلى المراقد المقدّسة، ويجب إزالة الموانع من أمام الزائرين. فكم هو حسن التعلّم من أتباع الأديان غير الإسلامية بهذا الخصوص.
لا يخفى أن الفعاليات في هذا الصدد فيها متاعب، ولكن ليس من اللائق أن نرى مثل تلك التسهيلات من غير المسلمين، ولا نراها عند المسلمين.
قال الله عزّ وجلّ: «إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ». فغير المسلمين لا اعتقاد لهم بالآخرة، ولكنهم يضحّون في سبيل اعتقادهم. في حين يقول القرآن الكريم لنا: «وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ».
ختام الكلام
أأكّد وأقول: لا تتوانوا ولا تقصّروا في تبليغ الإسلام الصحيح وفي تعريف السيرة النظيفة لأهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم. وليكن عملكم وأعمالكم ما من شأنها إحياء وإقامة الشعائر الحسينية المقدّسة، بأبهى وأفضل صورة ونحو. فالدنيا مقصّرة لحد اليوم، وهي متعمّدة في ذلك. فلنحذر أن لا نكون، لا سمح الله، في قائمة المقصّرين. فلنسع بقلمنا، وقدراتنا واستطاعتنا، إلى تشجيع الآخرين، للدفاع عن الشعائر الحسينية المقدّسة. وإن شاء الله تعالى يكون عملنا موجباً لتسجيل اسمائنا في صحيفة خدّام الإمام الحسين صلوات الله عليه.
أنا شخصياً أدعو في صلواتي وفي أوقات استجابة الدعاء لكم جميعاً أيّها الأعزّة، وللمبلّغين ولناشري الإسلام الأصيل المحمّدي والإسلام العلوي الخالص. وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.