30 ذو الحجة 1433 - 16/11/2012
على أعتاب حلول شهر محرّم الحرام 1434 للهجرة, وذكرى استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه, وكالسنوات السابقة, ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, كلمة قيّمة بوفود العلماء والفضلاء والمبلّغين, الذين وفدوا على بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة, يوم الأربعاء الموافق للتاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام 1433 للهجرة, للاستفادة من إرشادات سماحته فيما يرتبط القضية الحسينية المقدّسة, جاء فيها:
نحن على أعتاب شهر محرّم الحرام وشهر صفر المظفّر, وبهذه المناسبة اُقدّم التعازي إلى المقام الشامخ والرفيع والعظيم لمولانا بقيّة الله الإمام المهديّ الموعود صلوات الله وسلامه عليه وعجّل الله تعالى فرجه الشريف, وإلى المؤمنين والمؤمنات, وإلى المستضعفين في العالم كلّه, وإلى كل الذين يستفيدون من ذكرى الاستشهاد العظيم لمولانا الإمام سيّد الشهداء صلوات الله عليه, يستفيدون دائماً لدنياهم وآخرتهم, بالأخص الذين يوفّقون وسيوفّقون في إحياء الشعائر الحسينية, من العلماء والخطباء والكتّاب والمبلّغين والشعراء والرواديد, وكل الذين يشاركون في إحياء هذه الشعائر الإلهية, كل حسب قدرته واستطاعته وإمكاناته.
وقال سماحته: قال الإمام الحسين صلوات الله عليه في خطبته الشريفة أمام الجيش الذي كان يقوده الحرّ وجعجع بالإمام صلوات الله عليه: (اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر, وأسير بسيرة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه). ونقل التاريخ أن الإمام الحسين صلوات الله عليه قد قال هذا الكلام عدّة مرّات وفي مواقف اخرى وعديدة أيضاً, ومنها في كتابه إلى أخيه محمد بن الحنفية, عندما عزم الإمام على الخروج إلى مكّة من المدينة.
وأوضح سماحته: يبيّن الإمام الحسين صلوات الله عليه في هذه العبارة إرادته (هدفه) من نهضته المقدّسة, وهي أن يسير ويحكم كما سار وحكم جدّه النبي صلى الله عليه وآله وأبيه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. وفي كلام الإمام (أسير بسيرة جدّي وأبي) نقطة مهمّة وإشارة مهمّة جدّاً, وهي إنّ ضمّ سيرة الإمام أمير المؤمنين بسيرة النبيّ صلوات الله عليهما يعني الضمّ نفسه الذي بيّنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم). أي إنّ سيرة الإمام أمير المؤمنين وسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله هي سيرة واحدة. وكانت سيرة النبيّ والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما, هي المنّ والكفّ. وهذا الأمر نفسه جاء في الروايات الشريفة عن أهل البيت صلوات الله عليهم بخصوص مولانا الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف, حيث قالوا: يسير (أي الإمام المهدي) بسيرة جدّي رسول الله, وسيرة جدّه أمير المؤمنين صلوات الله عليهما.
وعقّب سماحته: إنّ المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم نور واحد, وسيرتهم سيرة واحدة. فسيرة أولّهم كسيرة آخرهم, مع مراعاة ظروف المكان والزمان. وبعبارة اخرى: لو كان النبيّ صلى الله عليه وآله مكان الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه لقام بمثل ما قام به الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ولو كان الإمام الكاظم صلوات الله عليه مكان النبيّ صلى الله عليه وآله, أو مكان الإمام الحسين صلوات الله عليه, لقام بمثل ما قام به النبيّ والإمام الحسين صلوات الله عليهما وآلهما. وهذا ما صرّحت به الروايات الكثيرة عند الشيعة, وغيرهم.
وشدّد سماحته بقوله: من المسائل المهمة كثيراً بالنسبة لأهل العلم والخطباء والمبلّغين والكتّاب, وهي مسؤولية مهمة أيضاً, هي أن يبيّنوا للعالم أجمع أنه لماذا عرّض الإمام الحسين صلوات الله عليه, نفسه وأهل بيته وأصحابه للقتل؟ فالعالم يجب أن يعرف إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه ضحّى بنفسه, وتعرّض لذلك القتل العجيب ولتلك الجريمة العظيمة, وللجرائم الفظيعة التي وقعت في نصف نهار من يوم عاشوراء سنة 61 للهجرة, وما تبعها من المآسي والمظالم, كل ذلك كان لأجل أن يسير الإمام بسيرة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله, كما قال هو صلوات الله عليه. وكانت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله سيرة الرحمة والعفو والمنّ والكفّ, والأمثلة في هذا المجال كثيرة وكثيرة.
وبعد أن ذكر سماحته جانباً من جوانب تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله, برحمة ورأفة مع الناس في زمن حكومته, والتعامل نفسه من قبل الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه, قال:
نعم, في زمن حكم يزيد كانت الصلاة والصيام والحجّ, والأذان, وغير ذلك, ولكن هذا كلّه كان ظاهرياً, أما الواقع والأساس والباطن, وبالأخص الحاكم وهو يزيد, فلم يكن إسلامياً ولم تكن سيرته كسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله, وليس كما أمر به القرآن والنبيّ صلى الله عليه وآله. والمساوئ التي ذكرها الإمام الحسين صلوات الله عليه عن يزيد, كقوله صلوات الله عليه: (وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد). هي غيض من فيض.
وأردف سماحته: إنّ الجرائم التي ارتكبها بنو أمية وبنو مروان من بعد واقعة كربلاء, كانت جرائم فظيعة ومخزية, وسوّدت وجه البشرية قاطبة, وليس وجه التاريخ فقط. وقد تعرّض أتباع أهل البيت صلوات الله عليهم ومحبّيهم في زمن الأمويين والمروانيين إلى قتل فظيع وجرائم عظيمة, وذلك لأنهم شيعة لأهل البيت صلوات الله عليهم. فيجدر بأهل العلم وسائر المثقّفين أن يطالعوا التاريخ, بالخصوص تلك الفترة من حكم الأمويين والمروانيين, وأن يألّفوا ويكتبوا عنها, بدقّة وبالتحليل, موسوعات كثيرة, ليعرف العالم ذلك.
وتطرّق سماحة المرجع الشيرازي في كلمته إلى بيان سيرة الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم وتعاملهم مع واقعة كربلاء من بعد استشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه, وقال: كان الإمام زين العابدين صلوات الله عليه يبكي كثيراً على الإمام الحسين صلوات الله عليه, بالأخصّ عند شربه الماء, حيث كان الدم يخرج من عينه بدل الدموع لكثرة بكائه صلوات الله عليه. وكان الإمام زين العابدين صلوات الله عليه يريد من هذا البكاء الكثير والمفجع أن يؤكّد إنّ قضية الإمام الحسين صلوات الله عليه ما انتهت ولن تنتهي. هذا جانب.
وجانب آخر, هو: إنّ زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه في زمن الأئمة صلوات الله عليهم من بعده, كانت متوفّرة, ويؤدّيها الناس, وكان الأئمة صلوات الله عليهم يدعون إليها ويحثّون ويشجّعون عليها, رغم المخاطر التي كانت تحفّ بالزيارة, ورغم الأذى والظلم الذي كان يتعرّض له الزوّار. ولم يصدر من الأئمة صلوات الله عليهم قول أو أمر بترك الزيارة التي كانت تحفّها المخاطر والأذى أبداً. بل كانوا يرغّبون الناس ويحثّونهم على تحمّل الخطر والأذى في سبيل زيارة الإمام سيّد الشهداء صلوات الله عليه.
وبيّن سماحته: إنّ الشعائر الحسينية, ومنها إقامة المجالس والزيارة وتوزيع الماء والإطعام وغير ذلك, من اللحاظ العلمي, لها موضوع وحكم. وحكم الشعائر, كما قال كبار الفقهاء, هو الاستحباب, وواجب كفائي. وقال قسم من الفقهاء بأنها جائزة إلى حدّ أن لا تتلف النفس أو يهلكها. وقال قسم, ومنهم العلاّمة الأميني في حاشيته على كتاب (الكامل في الزيارات): إقامة الشعائر الحسينية المقدّسة جائزة حتى لو علم المقيم بها أنه سيتعرّض للقتل في وقتها.
كما قال الشيخ خضر في كتابه (أبواب الجنان وبشائر الرضوان): (كثير من علماء الشيعة أفتوا بأن زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه واجبة كوجوب الحجّ. أي يجب زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه ولو مرّة في العمر). وقال الشيخ خضر أيضاً: (وعلى فرض عدم وجود القول بوجوب زيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه, فيجب على من يزور الإمام الحسين صلوات الله عليه, أول مرّة, أن ينوي الزيارة بأنها قربة إلى الله تعالى, وليس بنيّة الاستحباب على الأحوط). والشيخ خضر هو من كبار العلماء, وصاحب سر السيد بحر العلوم, وقد نال كرامة من الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه, بأن أعطاه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه, في عالم الرؤيا قلماً وأمره بالتأليف, وعندما استيقظ الشيخ خضر من النوم رأى القلم الذي أعطاه إيّاه الإمام, بين يديه, فألّف به كتابه الذي مرّ ذكره آنفاً.
وأضاف سماحته: أما بالنسبة إلى موضوع الشعائر, فأقول: كل موضوع جعل له الشارع حكماً, كالصلاة والصيام والحجّ. فإذا لم يكن من مخترعات الشرع, ولم يعيّن الشارع له حدوداً, فما اعتبره العرف موضوعاً, فهو كذلك. وهكذا الحال بالنسبة للشعائر الحسينية. ففي أي مكان وأية نقطة من العالم, إن كان الفعل ليس من المحرّمات في نفسه, وكان في أنظار ناس ذلك المكان وتلك النقطة بأنه يعدّ تكريماً للإمام الحسين صلوات الله عليه, فهو جائز. ومن ذلك: تذهيب القبّة الشريفة والضريح الطاهر للإمام الحسين صلوات الله عليه وصرف الملايين من الأموال على هذا التذهيب. أي حتى هذا التذهيب هو من الشعائر. وهكذا بالنسبة لقباب وأضرحة باقي الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم.
وأشار سماحته إلى ما يثار من الاستفهامات من بعض الأفراد حول الشعائر الحسينية, وقال: بعض يستاءل مستنكراً: من أي زمان بدأت الشعائر؟
في الجواب على مثل هذا السؤال أقول: إنّ أصحاب هذا القول وأمثاله, في الواقع إما جهلة أو يتجاهلون. لأن فقه الشيعة له موازين, ومرتبط بأهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم, وليس اختراعات شخصية أو فردية, وليس فيه مصالح مرسلة, ولا استحسان, ولا رأي شخصي من الفقيه. فهذا كلّه ليس ملاكاً في فقه الشيعة, بل الملاك هو: إن الحكم إلاّ لله, ومن عيّنهم الله تعالى, أي كتاب الله وهو القرآن الكريم وعترة رسول الله أي أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم.
وأكّد دام ظله مخاطباً الحضور والمؤمنين كافّة: اوصيكم واوصي المؤمنين كافّة بأن تسعوا إلى تبيين الإرادة أو الهدف الذي قام من أجله وضحى من أجله واستشهد من أجله مولانا الإمام الحسين صلوات الله عليه, وهو الذي ذكره الإمام في خطبته الشريفة, الذي ذكرناه في صدر كلامنا, وهو: (أسير بسيرة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه). هذا أولاً.
ثانياً: إقامة الشعائر الحسينية وتعظيمها, وتعريفها للعالمين. وهذا ما يريده الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم, منّا, وما يريده مولانا الإمام المهديّ الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف منّا, كما في الروايات الشريفة عنهم, وكما في زيارة الناحية المقدّسة, وباقي الزيارات الشريفة.
وختم سماحة المرجع الشيرازي كلمته القيّمة, قائلاً: الآن حيث وفّقنا الله تعالى وإيّاكم لأن ندرك شهري محرّم وصفر, فلنسع جميعاً إلى أن لا يصدر منّا التقصير والتهاون في تبيين إرادة الإمام الحسين صلوات الله عليه من نهضته المقدّسة, وفي إحياء الشعائر الحسينية وتعظيمها وتعريفها للبشرية.