29 شعبان المعظم 1433 - 21/07/2012
ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله, كلمة قيّمة بجموع من رؤساء وشيوخ العشائر الغيارى من محافظة كربلاء المقدّسة, الذين زاروا سماحته في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة, مساء يوم الاثنين الموافق للخامس والعشرين من شهر شعبان المعظّم 1433 للهجرة, وجدّدوا بيعتهم لسماحته.
استهلّ سماحته كلمته القيّمة بالآية الكريمة التالية: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ)(1), وقال:
إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه ضحّى بنفسه وبخيرة أهل بيته وأصحابه من أجل الله سبحانه وتعالى, ومن أجل الإسلام, فمنح الله تعالى الإمام الحسين صلوات الله عليه على استشهاده أن جعل الشفاء في تربته, وهذه هدية إلهية للإمام الحسين صلوات الله عليه. ومنح الله تعالى الإمام الحسين صلوات الله عليه أن جعل الأئمة من ذريّته, وجعل استجابة الدعاء تحت قبّته الشريفة, وهذه منحة إلهية للحسين صلوات الله عليه.
وقال سماحته: لم يكن هدف الإمام الحسين صلوات الله عليه من استشهاده هو أن يحصل على تلك الهدية والمنحة الإلهية, بل كان هدفه صلوات الله عليه شيئاً واحداً فقط, وهو إنقاذ الناس وهدايتهم ونجاتهم, وهذا ما صرّح به أئمة أهل البيت صلوات الله عليهم في زياراتهم المأثورة للإمام سيّد الشهداء صلوات الله عليه, كما في زيارة الإمام الصادق صلوات الله عليه لجدّه الحسين صلوات الله عليه, حيث يخاطب الله تعالى ويقول: وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة والضلالة والعمى والشكّ والارتياب(2).
وعقّب سماحته بقوله: إن الهدف الوحيد للإمام الحسين صلوات الله عليه عندما أقدم على الاستشهاد العظيم, وكما بيّن الإمام الصادق صلوات الله عليه, كان انتشال الناس من الفساد والضلالة ومن البغضاء ومن كل خُلُق سيّئ ومن كل عقيدة فاسدة. ولأجل ذلك قال جدّه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في حقّ الحسين صلوات الله عليه: حسين منّي وأنا من حسين(3). ومعنى هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وآله أن بقاء الدين وبقاء الإسلام وبقاء الفضيلة والعقيدة الصحيحة والخلق الرفيع, معقوداً باستشهاد الإمام الحسين صلوات الله عليه.
وفي سياق حديثه أشار سماحة المرجع الشيرازي إلى مواقف أهل العراق الغيارى في إحياء وتعظيم أمر أهل البيت صلوات الله عليهم, بالأخص تعظيم القضية والشعائر الحسينيتين المقدّستين, وقال:
إنني من هذا المكان, أشكر الجموع المليونية في العراق, والجموع المؤمنة الذين ينسابون من خارج العراق, مشاة وغير مشاة, ويشاركون في المسيرات العظيمة نحو مرقد الإمام الحسين صلوات الله عليه, تحت وطأة المشاكل الكثيرة في العراق اليوم, وتحت وطأة التفجيرات اللاإنسانية والكافرة والحاقدة والناصبة.
إنني أشكر جميع هذه الجموع المؤمنة, وكذلك أشكر كل الجموع المؤمنة في جميع نقاط العالم, الإسلامية وغير الإسلامية, الذين يشكّلون ويشاركون في مسيرات مقدّسة ولائية بمناسبة عاشوراء الإمام الحسين صلوات الله عليه, وبمناسبة أربعين الإمام سيّد الشهداء صلوات الله عليه, وأدعو لهم في صلواتي وأعقاب صلواتي, وفي الأوقات الفضيلة.
إنّي أدعو لكل تلك الجموع المؤمنة بإصلاح أمورهم وقضاء حوائجهم, وأن يقبل الله سبحانه وتعالى عليهم إقبالاً استثنائياً, كما وعد تبارك وتعالى بذلك الإمام الحسين صلوات الله عليه على لسان جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله.
وأضاف سماحته مشيراً إلى رعاية أهل البيت صلوات الله عليهم لشيعتهم وأتباعهم ومحبّيهم: إنّ أئمة الهدى وبالأخصّ الإمام الصادق صلوات الله عليهم أجمعين كانوا يدعون الله تعالى لزوّار الإمام الحسين صلوات الله عليه, في تلك الأيام الصعبة التي كان الزوّار يتعرّضون فيها إلى القتل وقطع الرؤوس والأيدي والأرجل لمجرّد زيارتهم الإمام الحسين صلوات الله عليه, كما في الرواية التالية: عن معاوية بن وهب قال: استأذنت على أبي عبد الله (الصادق) صلوات الله عليه. فقيل لي ادخل, فدخلت, فوجدتّه في مصلاّه في بيته, فجلست حتى قضى صلاته, فسمعته يناجي ربّه وهو يقول: اللهم يامن خصّنا بالكرامة ووعدنا بالشفاعة وخصّنا بالوصية وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا, اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي الحسين, ...., فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس, وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على حضرة أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه, ...(4).
وأردف سماحته قائلاً: إنّ الشعب العراقي المؤمن الموالي سوف يكون أسوة وقدوة لكل الشعوب الإسلامية ولكل شعوب العالم غير المسلمين أيضاً, ولكن هذا الأمر بحاجة إلى همّة من الذين مكّنهم الله تعالى في الأرض, ومنهم شيوخ العشائر المؤمنين الكرام, حيث عليهم أن يقوموا بلملمة شبابهم, بنين وبنات, كما فعل آباؤهم الكرام, رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين منهم.
وخاطب سماحته الضيوف بقوله: إنّ آباؤكم الكرام ربّوكم على ولاء أهل البيت صلوات الله عليهم وعلى عقائدهم وأخلاقهم, وأدّوا أمانتهم إلى الله تعالى في ذلك وإلى رسوله وإلى الإمام أمير المؤمنين ومولاتنا فاطمة الزهراء والحسن والحسين وسائر الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم, وإلى مولانا بقيّة الله الإمام المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف, حيث أدّوا أمانتهم بتربيتكم هذه التربية الصالحة, ونلتم بفضل ذلك أيضاً مرتبة مشيخة العشائر وتوجيه عشائركم إلى سبيل أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم. فكذلك عليكم أن تحاولوا على ترسيخ وتوسيع هذه التربية على كل أفراد عشائركم, حتى الجيل الصاعد, والأجيال التي تليها, حتى وبسبب جهودكم وتضحياتكم وخدماتكم, يكونوا أمثالكم, مضحّين لأهل البيت صلوات الله عليهم, أيضاً.
وأشار سماحته إلى الدور الفاعل والمؤثّر للعشائر الغيارى في تهيئة الأجواء الصالحة لتربية مجتمع صالح, ودورهم في مواجهة الأفكار والتيارات الضالة والمنحرفة والمعادية للدين, وقال: إنّ العشائر في كل البلاد, خاصة في البلاد الإسلامية, وبالأخصّ في العراق الجريح المظلوم الناهض الشجاع المضحّي بكل غال ونفيس من أجل أهل البيت صلوات الله عليهم ومن أجل شعائر أهل البيت المقدّسة, والشعائر الحسينية المقدّسة بالخصوص, إنّ العشائر هم طاقة جبّارة وضخمة تتمثّل في أفرادها, خصوصاً الشباب المؤمن, وبالأخصّ الشيوخ المؤمنين, فعليهم أن يعملوا ويشاركوا في صنع المستقبل الزاهر للعراق الأبي. ففي المستقبل ستزول المشاكل الحالية بالعراق, أي العمليات الإرهابية والتفجيرات, ولكن ستبرز وتظهر مشاكل اخرى, وهي مشاكل في العقيدة والأخلاق, كما ابتدأت بوادرها حالياً.
وأضاف سماحته: إخواني يارؤساء العشائر المؤمنة! هناك جماعات معادية تتربّص بكم لإفساد عقائدكم وأخلاقكم, أي ليفسدوا العقائد والأخلاق التي بذل الإمام الحسين صلوات الله عليه دمه الطاهر من أجلها, فحاولوا أن تزيدوا من اهتماماتكم وأن توسّعوا التفاتاتكم المهمة في هذا الظرف الحسّاس في العراق اليوم. فأعداء العراق, سواء الأعداء القريبون من العراق جغرافياً أو البعيدون, سييأسون من تحقيق مقاصدهم الفاسدة عبر التفجيرات والسيارات المفخّخة والأحزمة الناسفة, وسيسعون إلى محاولات اخرى, منها إفساد العقيدة والأخلاق.
وشدّد سماحته قائلاً: إنّ الإمام الحسين صلوات الله عليه قتيل العقيدة وقتيل الأخلاق الفاضلة, فاحرسوا الدم الطاهر للإمام الحسين صلوات الله عليه, والدماء الطاهرة لخيرة أهل البيت وخيرة الأصحاب, إذ قال الإمام الحسين صلوات الله عليه بحقّهم: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خير من أصحابي(5). فأصحاب الإمام سيّد الشهداء صلوات الله عليه حاموا عن الإمام حيّاً وميّتاً, فكانوا خيرة الأصحاب, واختلطت دماؤهم الزكية بدماء الإمام الحسين صلوات الله عليه. فعليكم أن تحرسوا هذه الدماء الزاكيات, كما أدّى ذلك وعمله آباؤكم الكرام في القرون السابقة, حيث أدّوا ما عليهم في هذه الحراسة الفضيلة والمهمّة. فحاولوا أن لا تقصّروا عما عمله آباؤكم, بل إنّ ظروفكم اليوم أصعب, من جهة, من الظروف السابقة التي كان يملؤها السيف والقتل. فظروف اليوم والغد هي ظروف عصيبة من حيث انتشار محاولات التشكيك في العقائد والأخلاق. فالناس اليوم يتعرّضون لمحاولات إفساد العقيدة والأخلاق عبر الألوف من القنوات الفضائية, وبلغات مختلفة.
وبيّن سماحته بقوله: إنّ الإعلام المضلّل يجب أن يقابله ويواجهه إعلام يهدي إلى الحقّ وإلى الطريق المستقيم, فلا ينتشر الهدى إلاّ من حيث انتشر الضلال. فيجب مقابلة الضلال بالهداية, وذلك بمثل الوسيلة التي أتى بها الضلال.
إنّ العشائر المؤمنة في العراق بحاجة إلى تأسيس الفضائيات, وهذا الأمر ليس من الأمور الصعبة إن اهتممتم به وركّزتم جهودكم عليه. فالله تعالى يسهّل عليكم شيئاً فشيئاً, وينزل معونته عليكم بقدر المؤونة. وأنتم الآن لكم مؤونة واسعة, سواء في العشائر نفسها, أو بالنسبة للمسيرات المقدّسة المليونية لزيارة الإمام الحسين صلوات الله عليه, وهكذا لمسيرات زيارة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه, ومسيرات زيارة الإمامين الجوادين والإمامين العسكريين صلوات الله عليهم أجمعين. فهذه المؤونة الضخمة التي تكون سبباً لإدرار الرزق الحلال لكم من الله, إذا شكرتم الله عليها عملاً, بأن تصرفون هذه المؤونة في تلك السبل المقدّسة, أي سبل أهل البيت صلوات الله عليهم, وهي سبل يرضاها الله سبحانه, ويرضاه رسوله الأكرم وأهل بيته صلوات الله عليهم. وإذا جعلتم من مؤونتكم فضائيات تدافع عن أهل البيت وعن عقائدهم وأخلاقهم صلوات الله عليهم, وتحوّطون بها شبابكم, وتكون سبباً في هداية شباب الآخرين من أصحاب المذاهب والأديان الاخرى, شيئاً فشيئاً, فسينزل الله تعالى معونته عليكم.
وعقّب سماحته مشيراً إلى بعض الجوانب المشرقة من سيرة أهل البيت صلوات الله عليهم التي يجهلها معظم الناس, ووجوب تعريفها للعالم أجمع: إنّ رسول الله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما, حكما حكماً صالحاً على وجه الأرض بعد حكم داود النبي, على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام. فعندما استشهد رسول الله صلى الله عليه وآله كان حينها رئيساً للحكومة, واستشهد مديوناً, حيث أوصى الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه قبل استشهاده بقوله: ياعليّ أنت قاضي دَيني(6). فهل رأيتم في التاريخ رئيس حكومة يموت وهو مديوناً؟!
كذلك الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه, حكم نصف المعمورة ذلك الزمان, حيث كانت رقعة حكومته, حسب خريطة عالم اليوم, تشمل (50) دولة, وكان مركز حكومته العراق, وبالتحديد في الكوفة المقدّسة بعليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه, وسيكون العراق والكوفة مركز حكومة مولانا بقيّة الله الإمام المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف وصلوات الله عليه, وسيجلس حيثما جلس جدّه أمير المؤمنين صلوات الله. ونسأل الله تعالى أن يعجّل في فرجه الشريف لنصرة المظلومين والانتقام من الظالمين. فلما استشهد الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان مديوناً أيضاً, وذلك لأنه كان يصرف جميع ما عنده على المؤمنين والشعوب والضعفاء والمساكين, وكان يقترض إذا لم يك عنده من المال شيئاً. وقد قضى الإمام الحسن المجتبى صلوات الله عليه ديون أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليه في فترة طويلة. فهل يعرف العالم مثل هذه السيرة المشرقة؟ وهل يعرف رئيساً كعليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه؟
وختم سماحة المرجع الشيرازي دام ظله كلمته القيّمة مؤكّداً: أملي فيكم وفي أمثالكم من شيوخ العشائر المؤمنين, ومن سائر طبقات المؤمنين, أن تكونوا عند مسؤوليتكم, وهي مسؤولية مهمة, وهي تحويط شباب العراق ورعايتهم, فكل شباب العراق, بنين وبنات, هم أبناؤكم, سواء من عشائركم أومن غيرها, وفي كل العراق. فأنتم قد قلتم (لبّيك) للإمام الحسين صلوات الله عليه في المسيرات المليونية المقدّسة, مشاة وغير مشاة, فقولوا (لبيّك ياحسين) في العمل على تحويط الشباب والاهتمام بهم, حتى يكون شباب العراق الجريح والمظلوم والصابر والصامد, أسوة للعالم أجمع, وليس للعراق والمنطقة فقط.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبّل منكم, وأن يوفّقكم جميعاً. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.