b4b3b2b1
أبو محمد الكتبي: الكتاب هو خير مؤرخ للتاريخ | المجدد الشيرازي ومبدأ اللاعنف في الإسلام.. | متخصصون بكربلاء: أغلب الندوات سطحية ولا تؤدي أهدافها المرجوة | آغا حسين القمي زعيمٌ للمرجعية ورائدٌ للحركة العلمية | الخطوات العملية المطلوبة لتحسين البيئة عالمياً.. من رؤى الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) | مشفى الكتاب في العتبة العلوية المقدسة احياء لكنوز المعرفة الاسلامية | من نشاطات مؤسسة (الإمام الحسين) الإسلامية في اوغندا | المركز التخصصي لطب الأسنان في الناصرية ..حُسن المعاملة وتطور الأجهزة الطبية | السيّدة نفيسة | من كربلاء ..الحجامة تاريخ يمتد الى 3300 قبل الميلاد (جديد) | الشيخ عبد الزهرة الكعبي صوت يتكرر عبر اثير الفاجعة الحسينية | مؤسسة الرسول الأعظم الثقافية.. معين لا ينضب من العطاء |

نزار حيدر: ضد التقليد

 

17 ربيع الأول 1433 - 10/02/2012

لعل من افضل ما يمكن قراءته من مفاهيم ورؤى في ذكرى المولد النبوي الشريف وذكرى مولد الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) (17 ربيع الاول) هو مفردة (التقليد) الذي انتج، على مر التاريخ، الفرق والحركات التدميرية.

والتقليد ظاهرة (انسانية) فهي لم تقتصر على المسلمين فقط او على اتباع الديانات فحسب، وانما هي ظاهرة ابتلي بها الانسان منذ امد بعيد، ولقد تحدث القرآن الكريم عنها، والتي شجبها بكل الاشكال، في عدد من الايات الكريمة مثل قوله تعالى:

{واذا قيل لهم تعالوا الى ما انزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه اباءنا}.

{واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها اباءنا}.

{قالوا اجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه اباءنا وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين}.

{قالوا وجدنا اباءنا لها عابدين}.

{قالوا بل وجدنا اباءنا كذلك يفعلون}.

{واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه اباءنا}.

{بل قالوا انا وجدنا اباءنا على امة وانا على اثارهم مهتدون}.

{وكذلك ما ارسلنا من قبلك في قرية من نذير الا قال مترفوها انا وجدنا اباءنا على امة وانا على اثارهم مقتدون}.

اما شجب القرآن الكريم لهذه الظاهرة المرضية، فقد ورد في العديد من الايات، كقوله تعالى:

{ اولو كان اباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} { اولو كان اباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون}.

انها الظاهرة التي حالت دائما بين الانسان والايمان، لانها تحول، قبل ذلك، بينه وبين التفكر الذي يعمل على تنشيط العقل ليتخذ قراره بكامل ارادته بعيدا عن الفرض والاكراه، او الطمع والخوف.

وعلى الرغم من ان الاسلام الذي بعثه الله تعالى للبشرية من اجل القضاء على هذه الظاهرة المرضية، في سبيل تحقيق التطور والتقدم والتجديد، الا ان الكثير ممن آمن بالاسلام، كذلك، ابتلي بهذا المرض، ما تسبب بظهور الفرق والحركات (الاسلامية) التدميرية التي انتجت التحجر والتخلف، او على الاقل التوقف عند نقطة من دون ادنى تطور، حتى اذا تراكم هذا التخلف انتج كل هذا التقهقر، وعلى مختلف الاصعدة، والذي ابتلي به المسلمون وبلدانهم.

وبقراءة متانية للتاريخ، سنلحظ بان عهد الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام (80 ــ 148 للهجرة) تحديدا كان من اكثر العصور (الاسلامية) التي شهد هذا النوع من الامراض المستعصية، ولذلك فهو عليه السلام اهتم بعلاجه بشكل ملفت للنظر، ليس بالقوة والاكراه والعنف والارهاب، ابدا، وانما بالحوار والمنطق والمجادلة بالتي هي احسن، على اعتبار ان الامراض الاجتماعية التي سببها الانحراف في التفكير والقصور في تنشيط العقل، لا يمكن معالجتها الا بالعقل المتنور والتفكير السليم، والا فانها ستتجذر وتترسخ اكثر فاكثر اذا ما واجهها المرء بالعنف والقهر، ولهذا السبب لم يلجأ الامام الصادق عليه السلام الى اي نوع من انواع القهر الفكري لتصحيح مسارات الانحرافات الفكرية في المجتمع، وانما لجأ عليه السلام الى الحوار والمناظرة العامة والعلنية، وهو الذي اشتهر بها اكثر من بقية ائمة اهل البيت عليهم السلام، بسبب الفسحة (الامنية) التي عاشها عليه السلام والتي امتدت فترة انهيار الدول الاموية وقيام الدولة العباسية، ما جعلهما مشغولين بانفسهما ومع بعضهما البعض اكثر من انشغالهما بعدوهما المشترك، التشيع وائمته، ائمة اهل البيت عليهم السلام، ما مكن الامام من نشر اسس مدرسته على نطاق واسع جدا.

ولم يات اهتمامه عليه السلام بنقض التقليد من فراغ ابدا، وانما بسبب خطورة هذا المرض في المجتمع، فالتقليد يقضي على حرية الفكر وعلى حرية التعبير، وان مجتمعا ليست فيه هذه الحرية لهو مجتمع ميت لا يمكنه النهوض والتطور ابدا، فالتقليد ضد التطور، والذي هو سنة الحياة، ولان الامام عليه السلام كان ينشد ترسيخ مقومات ودعائم النهوض الحضاري في الامة، لذلك بذل كل ما بوسعه من اجل تصحيح مسار (التفكير العقلي والمنطقي) في الامة، ولهذا السبب نراه عليه السلام يوظف العقل في اثبات رؤاه الرسالية للحياة بعيدا عن الخرافة والتجهيل والطلاسم وما شابهها.

وانما يلجأ الناس الى التقليد على طريقة القاعدة التي تقول (ضعها براس العالم واخرج انت منها سالما) لانه سهل المرام وفي متناول اليد، فهو لا يحتاج الى اي جهد، بل انه جهد العاجز، كما انه يمنح المرء فسحة كبيرة وواسعة للسبات العميق والنوم والشهيق، وهو الامر الذي يميل اليه الناس عادة، اما عكس التقليد فبحاجة الى جهد عقلي ومعرفي كبير، كما انه بحاجة الى البحث والاستقصاء والمقارنة والتثبت والقراءة والمطالعة والدرس، وليس كل الناس قادرون على مثل هذا، ولذلك تراهم يختارون التقليد على عدمه، ليريحوا ويستريحوا، واذا عرفنا ان سلطات الجور عادة ما تشجع على مثل هذا النهج، لتثبيت سلطتهم الجائرة، فسنعرف لماذا تنتشر هذه الظاهرة في المجتمعات التي تحكمها الانظمة الشمولية والديكتاتورية، فيما لا تعرف المجتمعات الحرة هذا النوع من المناهج.

وليس عبثا ان جعل الله تعالى معجزة الاسلام ونبيه الكريم، القرآن الكريم، والذي يعني في جوهره العقل، فان اية معجزة اخرى ستكون آنية يحددها الزمن الممتد بعمر الرسول، اما القران الكريم، اي العقل، فانها المعجزة الخالدة التي لا يحدها زمان ومكان ابدا، فهي لم تتحدد بعمر الرسول الكريم، كما انها لم تتحدد بالجزيرة العربية التي نزل فيها، فالعقل هو المعجزة الخالدة التي لا يمكن ان يحدها شئ، شريطة ان تتحرر من كل انواع الاصر والاغلال، لينشط بطريقة تمكنه من الانتاج بشكل سليم.

لقد سأل امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام رسول الله (ص) عن سنته، فقال:

المعرفة راس مالي، والعقل اصل ديني، والحب اساسي، والشوق مركبي، وذكر الله انيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة.

العقل، اذن، اصل الدين، فمن لا عقل له لا اصل له، ومن لا اصل له لا دين له، ولذلك يمكن ان نبني على هذا التعريف قاعدة ذهبية تقول، ان من لا عقل له لا دين له، وان صام وصلى وحج البيت العتيق، ولذلك ورد عن رسول الله (ص) قوله {اول العبادة، اي الدين، المعرفة به} اما امير المؤمنين عليه السلام فيقول {لا خير في عبادة، اي دين، لا علم فيها}.

ومن وصية للامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم، قوله {يا هشام ما قسم بين العباد افضل من العقل، نوم العاقل افضل من سهر الجاهل، وما بعث الله نبيا الا عاقلا حتى يكون عقله افضل من جميع جهد المجتهدين، وما ادى العبد فريضة من فرائض الله حتى عقل عنه}.

ولان العقل والتعصب على طرفي نقيض لا يجمع، فلذلك نهى الاسلام عن التعصب، فقال عز وجل في محكم كتابه الكريم {اذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} اما رسول الله (ص) فقد قال {من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية} فيما قال الامام الصادق عليه السلام {من تعصب عصبه الله عز وجل بعصابة من نار}.

مما تقدم يتضح لنا جليا بان الاسلام رفض التقليد لانه يلغي العقل، واذا الغى الانسان عقله تعصب، واذا تعصب تحجر، واذا تحجر يقتل من يختلف معه، ولذلك فان كل فرق وحركات الموت التي شهدها تاريخ المسلمين، اساسها التقليد الذي الغى عقول زعمائها، ما دفعهم الى التعصب فالتحجر فالقتل على الهوية او بسبب اختلاف الاخر مع منهجها وطريقة تفكيرها.

وان جذر المشكلة يعود الى طغيان العاطفة، فهي اذا طغت تسيطر على العقل فتطفئ شعلته، وتطغى على الواقع فتضيعه، وهي تحكم على الفكر بالجمود، وعندها يتقهقر العقل ويتراجع التفكر والتفكير الحر، فيسيطر التقليد على حياتنا.

انها مشكلتنا اليوم في العالم العربي والاسلامي، فاذا دققنا النظر في اصل مشكلة حركات واحزاب الموت، كالحزب الوهابي المحمي باموال وسلطة اسرة آل سعود الفاسدة في الجزيرة العربية، فسنلحظ ان جذرها يعود الى التقليد الذي الغى العقل، فتعصبوا فتحجروا، ليرفضوا كل اختلاف في وجهات النظر، معتبرين الخلاف معهم مروق عن الدين يستحق صاحبه القتل والهتك والتدمير، وهذا ما يدعو اليه الحزب الوهابي المتعصب الذي الغى العقل واعتمد التقليد، فبات السلف من وجهة نظره كل شئ، رافضا التجديد والاجتهاد والتطوير في مناهج البحث، للوصول الى مقاصد الشريعة المحمدية السمحاء.

واذا كان شعار فرق الموت المعاصرة هو التكفير، فان جذره التاريخي يعود الى التسمية التي شاعت في الامة في القرن الثاني للهجرة، الا وهي (الزندقة) التي اتسع نطاق استعمالها لتطلق على من يناقش احاديث الصحابة او يردها لعدم صحتها، كما ورد ذلك في تاريخ بغداد الجزء 14 الصفحة 7، وكذلك اطلق لفظ الزندقة على المفكرين الذين يقفون امام الحوادث التاريخية موقف تثبت، لاستجلاء الواقع ومعرفة الحقيقة، فالامر الذي يتعلق بالبحث حول الصحابة وما صدر منهم قد اصبح محظورا، فلا يمكن الا التسليم بصحة ما صدر منهم، وان خالف الشرع، لان البحث عن ذلك امر يستوجب الاتهام بالزندقة، وليس وراء ذلك الا السيف، حتى اصبح ذلك من القواعد المقررة المعمول بها طبقا لارادة الدولة، وتلك القاعدة هي: اذا رايت الرجل ينتقص احدا من اصحاب محمد (ص) فاعلم انه زنديق، كما ورد ذلك في الكفاية للخطيب البغدادي في الصفحة 49، على حد قول العلامة اسد حيدر في سفره الخالد (الامام الصادق (ع) والمذاهب الاربعة).

وبذلك سعى السلطان الجائر ومن ورائه جوقة وعاظ السلاطن واصحاب الاقلام الماجورة التي همها التضليل وخداع الراي العام، الى تحديد طريقة تفكير الناس بما يتناسب وطريقة حكمه القائمة على الظلم والعنف والارهاب، وهو الامر الذي يتواصل اليوم بطرق وشعارات ومسميات شتى.

انه الارهاب الفكري باسوأ اشكاله.

وانما نجح المفكرون والمجددون في تطوير فهم النصوص من اجل تحقيق التطوير في الحياة، برفضهم القوالب (الفكرية) الثابتة التي ساهمت في تجميد العقل، انهم من يرى بوجوب اطلاق حرية الفكر كشرط لازم لانجاز التجديد في الفكر والثقافة، على اعتبار ان الراي، اي راي، يعتمد حاجات الزمان والمكان، ولان الزمان متغير وكذلك المكان، لذلك يجب ان يتطور الفكر ليواكب كل هذا التغيير الذي تشهده البشرية.

ذكروا يوما في مجلس السيد جمال الدين الافغاني قولا للقاضي عياض، واتخذوه حجة، واشتد تمسكهم بذلك القول حتى انزلوه منزلة الوحي، بانه لا ياتيه الباطل لا من خلفه ولا من امامه، فقال الافغاني: يا سبحان الله، ان القاضي عياض قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه وزمانه، افلا يحق لغيره ان يقول ما هو اقرب للحق واوجه واصح من قول القاضي عياض او غيره من الائمة؟.

انهم نجحوا، المجددون، في مهمتهم من خلال بعث روح الفكر وتجديد حركتها بالتصدي للجمود والتعصب، اما المستبدون فلا يخافون الا من العلم، ولا علم الا بالاجتهاد في ضوء حرية الفكر، فقد نقل الحافظ ابن عبدالبر وغيره، الاجماع على ان المقلد ليس بعالم، ونقله عنه ابن القيم في (اعلام الموقعين) اذ العالم بالشئ هو من يعرفه بدليله، وانما يعرف المقلد ان فلانا قال كذا فهو ناقل لا عالم، على حد قول العلماء، ولذلك رفض الاسلام التقليد باصول الدين، وانما حث على معرفتها والتثبت منها والاقتناع بها بالعقل من خلال البحث الحر والمجرد عن التقليد، كما ان معرفة المكلف باصل فروع الدين لا يجوز التقليد به، اذ تجب القناعة بوجوبها، اما التقليد ففي التفاصيل فحسب، وليس في اصل معرفتها والتثبت من وجوبها.

ولا يخفى على الحصيف حقيقة ان التقليد الذي ينتج التعصب والذي ينتج بدوره التحجر، ينتج في نهاية المطاف الغلو باسوأ اشكاله، الغلو الذي نهى عنه الله تعالى في كتابه الكريم بقوله {يا اهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق} وكذلك في قوله تعالى {قل يا اهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}.

ولقد ابتلي ائمة اهل البيت عليهم السلام، خاصة الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بالغلو بدرجة كبيرة، ولذلك فقد حاربوا عليهم السلام الغلو بشكل واسع لئلا يتحول الى منهج في حياة الامة، فيقضي عليها ويدعها جثة هامدة لا تقوى على شئ، وهو (المنهج) الذي يدعو اليه اليوم بعض (المعممين) الذين تلبسوا بلبوس الدين والدين منهم براء، خاصة من وعاظ السلاطين من فقهاء بلاط نظام القبيلة الحاكم في دول الخليج، والذين يغالون حتى في طاعة الحاكم الفاسق والسلطان الجائر و (ولي الامر) المنحرف.

لقد تصدى اهل البيت عليهم السلام لهذا المنهج بكل قوة، فلقد قال الامام امير المؤمنين عليه السلام يوصي ولده الحسن السبط عليه السلام { أَلْجئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إلى إلِهِك فَإنِّكَ تُلْجِئُهَا إلى كَهْفٍ حَرِيزٍ ومَانعِ عَزِيزٍ وأَخْلِصْ فِي المَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ فَإِّن بِيَدِهِ الْعَطَاءَ والْحرْمَانَ} كما ورد في دعاء الجوشن الكبير ما يكرس محاربة الغلو في المجتمع بالقول { يا من لا يعلم الغيب إلا هو، يا من لا يصرف السوء إلا هو، يا من لا يخلق الخلق إلا هو، يا من لا يغفر الذنب إلا هو، يا من لا يتم النعمة إلا هو، يا من لا يقلب القلوب إلا هو، يا من لا يدبر الأمر إلا هو، يا من لا ينزل الغيث إلا هو، يا من لا يبسط الرزق إلا هو، يا من لا يحيي الموتى إلا هو}.

وعندما سمع الامام على بن موسى الرضا عليه السلام من يغلو فيه قال:

اللهم إني بريء من الحول والقوة ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم إني أعوذ بك وأبرأ إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق، اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللهم لك الخلق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين، اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين، اللهم لا تليق الربوبية إلا بك، ولا تصلح الإلهية إلا لك، فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك، والعن المضاهين لقولهم من بريتك. اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، اللهم من زعم أنا أرباب فنحن منه براء، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن براء منه كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون، فلا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما يدعون، ولا تدع على الأرض منهم دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا.

ذات القول كرره الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عندما علم ان هناك من يغلو فيه وفي امير المؤمنين عليه السلام، فقال:

فوالله ما نحن الا عبيد الذي خلقنا ما نقدر على ضر ولا نفع ان رحمنا فبرحمته وان عذبنا فبذنوبنا والله ما لنا على الله من حجة، ولا معنا من الله براءة، وإنا لميتون، ومقبورون، ومنشورون، ومبعوثون وموقوفون، ومسؤولون، ويلهم! ما لهم لعنهم الله؟! فلقد آذوا الله وآذوا رسوله في قبره وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي}.

اما الامام علي بن الحسين السجاد (زين العابدين) عليه السلام، فقد رد على المغالين بقوله:

لعن الله من كذب علينا، لقد ادَّعَى أمراً عظيماً، ما له لعنه الله كان عليٌّ عبداً لله صالحاً، أخو رسول الله ما نال الكرامةَ مِنَ الله إلا بطاعته لِلَّه ولرسوله، وما نال رسول الله الكرامةَ مِنَ الله إلا بطاعته.

لقد سعى ائمة اهل البيت عليهم السلام الى تكريس ثقافة المسؤولية في المجتمع الاسلامي حتى لا يتكل احد على عمل غيره او على شفاعة الشافعين بلا عبادة او طاعة او عمل صالح، فلقد قال الامام الصادق عليه السلام يوصي اصحابه:

واياكم ومعاصي الله ان تركبوها، فانه من انتهك معاصي الله فركبها، فقد ابلغ في الاساءة الى نفسه، وليس بين الاساءة والاحسان منزلة، فلاهل الاحسان عند ربهم الجنة، ولاهل الاساءة عند ربهم النار، فاعملوا بطاعة الله، واجتنبوا معاصيه، واعلموا انه ليس يغني عنكم من الله احد من خلقه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا من دون ذلك، فمن سره ان تنفعه شفاعة الشافعين، فليطلب الى الله ان يرضى عنه.

اما الذين يعملون كل منكر، ويرتكبون كل جريمة، ويقصرون في واجباتهم ازاء حقوق الاخرين، ثم ينتظرون شفاعة الشافعين، فمثل هؤلاء لا يضحكون الا على انفسهم، وهم يشعرون.

ان الانسان، اي انسان، سيحاسبه الله تعالى يوم القيامة بشكل منفرد، فليس هناك حساب جماعي ليفلت احد من ذنوبه، او من ظلمه للاخرين وحقوقهم عليه، ابدا، فـ { كل نفس بما كسبت رهينة} و { كل انسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا}.

ان اثارة المسؤولية العينية في المجتمع، واحدة من اعظم طرق التربية التي وظفها الامام الصادق عليه السلام، من خلال حثه شيعته على محاسبة انفسهم كل يوم وكل ليلة، لئلا يعتمد امرئ على عمل غيره او على شفاعة الشافعين، ففي وصيته المعروفة لابن جندب، يقول عليه السلام:

حق على كل مسلم يعرفنا ان يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه فيكون محاسب نفسه، فان راى حسنة استزاد منها، وان راى سيئة استغفر منها، لئلا يخزى يوم القيامة.

ويضيف عليه السلام في وصيته هذه:

يا ابن جندب، يهلك المتكل على عمله، ولا ينجو المجترئ على الذنوب، الواثق برحمة الله، قلت: فمن ينجو؟ قال: الذين هم بين الرجاء والخوف، كأن قلوبهم في مخلب طائر شوقا الى الثواب وخوفا من العقاب.

ويضيف عليه السلام:

يا ابن جندب، بلغ معاشر شيعتنا وقل لهم: لا تذهبن بكم المذاهب، فوالله لا تنال ولايتنا الا بالورع والاجتهاد في الدنيا ومواساة الاخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس.

لقد وضع الامام عليه السلام النقاط على الحروف في هذا النص، فالى من يظن ان الانتماء اليهم بالاسم فقط يكفي لدخول الجنة، وان التشيع لهم يسقط كل الذنوب التي يصر عليها المرء بحجة الشفاعة، وان حبهم يعوض عن ظلم الناس والتعدي على حقوق الاخرين ومجافاة الاخوان، اليهم اقول، ينبغي علينا جميعا ان نعيد النظر في بعض متبنياتنا وثوابتنا التي تقوم على جمع المتناقضات، فتجمع بين حب اهل البيت عليهم السلام وظلم الناس، وبين التشيع لهم وترك الفرائض، وبين التطلع الى شفاعتهم والبغض والكراهية للاخر.

يقول عليه السلام في وصيته:

يا ابن جندب: احبب في الله واستمسك بالعروة الوثقى واعتصم بالهدى يقبل عملك فان الله يقول {الا من آمن وعمل صالحا ثم اهتدى} فلا يقبل الا الايمان، ولا ايمان الا بعمل، ولا عمل الا بيقين، ولا يقين الا بالخشوع وملاكها كلها الهدى، فمن اهتدى يقبل عمله وصعد الى الملكوت متقبلا {والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم}.

فسلام على العالم العامل، حفيد رسول الله (ص) الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) يوم ولد ويوم جاهد في الله حق جهاده ويوم استشهد ويوم يبعث حيا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.