11 شوال 1432 - 10/09/2011
مجموعة من الخواطر التي تتعلق بجوانب من حياة الإمام المجدد آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رضوان الله عليه)، والتي شاهدها نجله الأكبر الفقيد الراحل محمد رضا الشيرازي بنفسه، وسمعها من الآخرين، وقد نشرت في كتاب (عندما يتحدث الأبناء)، وهي بين يدي الجميع للاستفادة من حياة وتجربة هذا الرجل العظيم بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة لرحيله.
العبادة..
كلمة (العبادة) تطلق على معنيين:
الأول: العبادة بالمعنى الأعم، وهي عبارة عن كل ما يجعله المؤمن عبادة بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ويمكن للعبادة بهذه المعنى أن تستغرق آناء حياة الإنسان كلها، وفي الحديث الشريف: (ليكن في كل عمل نية).
الثاني: العبادة بالمعنى الأخص، وهي عبارة عن كل عمل يكون بهيئته ومادته مقرباً إلى الله تعالى، كالصلاة والدعاء وقراءة القرآن.
ولئن كانت العبادة بالمعنى الأول مطلوبة، فإنها بمعناها الثاني مطلوبة أيضاً، ومن هنا نجد ظاهرة العبادة بمعناها الأخص جلية في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام).
استمر الفقيد الراحل (رضوان الله عليه) على الذهاب إلى (مسجد السهلة) في أيام شباب أربعين ليلة أربعاء، رغم صعوبة السفر في بعض تلك الفترات، حتى حظي بلقاء سيدنا ومولانا الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كما نقله بعض العلماء الكبار.
وكان (رحمه الله) يقول في كل ليلة قبل منامه: (لا إله إلا الله) ألف مرة، كما نقل ذلك بعض ذويه.
وفي إبان الأزمة الخانقة في العراق، انتقل إلى بيت بعض الأقرباء، متخفياً فيه، وقد ظل هنالك لمدة أربعة أشهر، وقد كان (رحمه الله) يكتب عريضة للإمام الحجة (عليه السلام) في كل يوم بعد صلاة الصبح ولم يترك هذا العمل خلال الأربعة أشهر ولا ليوم واحد.
الزهد..
للزهد ـ كما يبدو ـ معنيان:
الأول: إن لا يملكك شيء.
الثاني: أن لا تملك شيئاً، إلا بقدر الضرورة.
والزهد مطلوب بمعنييه، وخاصة من القادة والرؤساء.
وفي الحديث الشريف: (.. كي يتبيّغ بالفقير فقره).
وظاهرة (الزهد) واضحة جلية في حياة الفقيد الراحل (رضوان الله عليه).
لقد انكسر إطار نظارته، فلم يرضَ بتبديله، بل ربط أجزاءه بشريط لاصق، ولا زالت نظارته بعد وفاته ملصقة بذلك الشريط.
وكان (رحمه الله) يعاني أوجاع الرجل في السنوات الأخيرة من حياته، واقترح عليه البعض بأن يجلس على كرسي حين استقباله الناس، فلم يقبل بذلك، لأنه قد يكون فيه لون من ألوان الاستعلاء على الجالسين.
كما اقترح البعض أن يضعوا للكل كراسي أو نحوها، على نفقتهم الخاصة، فلم يرضَ بذلك، وقد نقل له أحد أولاده الاقتراح ذات مرة، فقال (رحمه الله): هل تعلم كم حولنا من الفقراء؟
ومع إن الملايين (النقود) كانت تجري بين يديه، إلا أنه مات مداناً، وقد تكفل أخوه آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) بتسديد هذه الديون على نحو التدريج.
وعاش حوالي تسع سنوات في الكويت ولم يملك شبراً من الأرض، كما عاش حوالي خمسة وعشرين عاماً في إيران ولم يملك فيها داراً ولا عقاراً، وكان البيت الذي سكنه في قم المقدسة عبارة عن وقف خيري.
الهدف..
الوصول إلى الأهداف الكبرى لا يتحقق إلا بتركيز الجهود عليها، وعدم الالتفات إلى لأمور الهامشية، وقد كان الفقيد (رحمه الله) ذا أهداف كبرى، ولذا كان يحاول أن لا يشغله عنها شيء.
وقد ذكر بعض العلماء: إنه حدّث الفقيد الراحل (رحمه الله) عما يقوم به بعض المناوئين وقال له: ألا ترد عليهم؟ وكان (رحمه الله) مشغولاً بالتأليف، فقال: ليس لدي وقتان، وقت للتأليف، ووقت للرد على هؤلاء.
التضحية..
كان رحمه الله يرى إن الوصول إلى الهدف لا يتحقق إلا بالتضحية، وكان مستعداً لها، بمختلف ألوانها وأشكالها.
وقد نقل أحد العلماء أنه (رحمه الله) عندما بدأ بتأسيس بعض المشاريع، ثارت في وجهه مشاكل كثيرة، فحدث الفقيد (رحمه الله) عن تلك المشاكل، فقال (رضوان الله عليه): إن لنا ذاتاً وهدفاً، ولا يمكن أن نجمع بينهما، فإما أن نضحي بالذات في سبيل الهدف، أو نضحي بالهدف في سبيل الذات، وقد اخترت أن أضحي بذاتي في سبيل الهدف الإلهي.
التفكير العالمي:
كان (رحمه الله) ذا تفكير عالمي، ولم يكن يفكر في إطار توصية معينة، أو بلد معين.
وقد نقل أحد أساتذة الجامعات إن الفقيد (رحمه الله) دعاه قبل حوالي أربعة أيام من وفاته، وقال: إننا يجب أن نحاول هداية اليهود نحو الإسلام، ثم طلب (رحمه الله) منه أن يفتح صفحة في (الأنترنت) باللغة العبرية لتوجيه اليهود، قال: وبدأت بالمقدمات وإذا بي أفاجأ بخبر وفاته (رحمه الله).
التأليف:
كان الفقيد (رحمه الله) يعتقد بأهمية (التأليف) ويرى أنه قاعدة مهمة من قواعد النهضة الحضارية.
وكان (رحمه الله) ينتهز كل فرصة للتأليف، كما كان يحرض الآخرين على ذلك.
وقد خرج ذات يوم من بيته في مدينة كربلاء المقدسة، فوجد إن الأحكام العرفية معلنة، فعاد إلى البيت، وفكر أن يشتغل بالتأليف، فألف واحداً من كتبه في ذلك اليوم.
الموعظة:
للموعظة أثر بالغ في حياة الإنسان فإنها توقظ الوجدان، وتقشع عن القلب سحب الجهل والغفلة، وكم من الأفراد تحولوا إلى أولياء لله تعالى على أثر الموعظة.
والموعظة قد تكون قولية، وقد تكون عملية، وتأثير الأخيرة أبلغ في النفوس.
وقد كان السيد (رحمه الله) يهتم بالموعظة، سواء في خطبه العامة، أو في لقاءاته الفردية.
وقد نقل أحد السادة: دخلت مرة في ديوانية الفقيد (رحمه الله) في الكويت، وكنت متضايقاً جداً لمشكلة ألمت بي، وعندما رآني الفقيد (رحمه الله) على هذه الحالة قال لي: هل عندك التزام معين؟ قلت: لا.
فقال الفقيد (رحمه الله): لنذهب إلى مستشفى العظام.
فتصورت أنه يريد زيارة شخص معين.
فذهبا.. ودخل الفقيد (رحمه الله) في غرفة ورأى المرضى هنالك، ثم خرج ودخل غرفة ثانية.. وهكذا، وقد رأينا مجموعة من المصابين، منهم من كسرت جمجمته، ومن كسر عموده الفقري، ومن هشمه سيارة، ومن يتنفس تنفساً اصطناعيا، وخرجنا.. فقلت للفقيد (رحمه الله): من كنت تريد زيارته؟ هل كنت تقصد شخصاً معيناً؟ قال رحمه الله: كلا.
قلت: فلماذا جئنا؟ قال (رحمه الله): لأجلك.
قلت: وكيف؟، قال (رحمه الله): لما رأيتك متضايقاً، فكرت أن أريك من هو اسوأ حالاً منك، حتى تعرف قدر نعمة الله عليك، ولا تتذمر من مشاكلك التي تعتبر بسيطة بالنسبة إلى مشاكل الآخرين.
فقال السيد: وفعلاَ سرّي عني، وحمدت الله على ما أنا فيه، وظلت هذه القضية ماثلة في ذهني حتى الآن.
الأسرة..
الأسرة هي المدرسة الأولى للإنسان، والسيد الفقيد (رحمه الله) رغم مشاغله الكثيرة، كان يهتم بأسرته ويقطع لأجلهم جزءاً من وقته المشحون، وكثيراً ما كان يشوّق أفراد العائلة للاجتماع للدعاء أو قراءة بعض السور القرآنية، وكان يشاركهم في ذلك برهة ثم ينصرف إلى سائر أعماله.
وكان رحمه الله يقيم صلاة الجماعة في بيته لأفراد أسرته في كل يوم إلى أخريات أيام حياته، فكان أهله وأولاده وأحفاده يجتمعون ويصلون خلفه جماعة.
وعندما كان يجتمع الأقرباء والأولاد والأحفاد في الليالي ـ خاصة في فصل الصيف ـ كان (رحمه الله) يذهب بعد فراغه من صلاة العشاء إلى المطبخ، ليبدأ في إعداد الطعام الذي كان طعاماً بسيطاً عادة، ثم كان يلتحق به بعض أفراد الأسرة ليشاركوه في ذلك، (وكان حينذاك يشرع بذكر حديث شريف أو موعظة حسنة).
وعندما كان يأتي ضيف، وكثيراً ما كان يحدث ذلك، كان (رحمه الله) يشارك بنفسه في إعداد الطعام، فيذهب إلى المطبخ ويتعاون مع عائلته.
الآخرة..
الآخرة هي الحياة الحقيقية التي خُلق لأجلها الإنسان.
وقد كان السيد الفقيد (رحمه الله) يوصي الخطباء الكرام بأن يخصصوا كل واحد من خمسة مجالس أو نحو ذلك للحديث عن الآخرة.
وقد نقلت بعض قريباته: إنها دخلت قبل أيام معدودة من ارتحاله إلى غرفته فجأة فوجدت دموعه جارية على خديه وهو يقرأ في كتاب.
تقول: عندما رأيت هذا المنظر خرجت بسرعة من الغرفة، وبعد فترة أظهرت أنني أريد دخول الغرفة..
فمسح السيد (رحمه الله) دموعه، فدخلت الغرفة وسلمت عليه، وكان له (رحمه الله) موعد في المكتب قد أقترب وقته فذهب، وانتهزت الفرصة لآخذ ذلك الكتاب لأنظر في الصفحة التي كان يقرأ بها، وكانت فيها علامة، فوجدت إن تلك الصفحة تتحدث حول قبض ملك الموت لأرواح المؤمنين.
وكثيراً ما كان (رحمه الله) يذكر جلساءه بالآخرة والموت، وكان يقول: إننا سوف ننتهي فجأة، أي نموت.
وكان (رحمه الله) يقول أيضاً: في يوم من الأيام سوف تخرجون فتجدون صوري على الجدران، فتقولون: ماذا حدث، فيقولون لكم إن فلاناً مات.
وفي آخر خطبة خطبها (رحمه الله) قبل رحيله بفترة وجيزة، ذكّر الناس بالآخرة.