27 شوال 1430 - 17/10/2009
بقلم : د. محمد حسين حبيب
تقول المستشرقة السوفيتية تمارا الكساندروفنا في كتابها (ألف عام وعام على المسرح العربي) وبعد إطلاعها على الأحداث الملازمة لقضية الحسين (عليه السلام) ـ ما قبل وما بعد ــ بوصفها مادة مشبعة بالدراما الحقيقية والتراجيديا، تقول: " ولا يتبقى لنا في النتيجة إلا أن ناسف لعدم ولادة شكسبير عربي كان باستطاعته تجسيد طباع أبطاله وسلوكهم في الشكل الفني للتراجيديا الدموية. إن في هذه المادة من المؤامرات والقسوة والتعسف والشر ما لا يقل عما كانت عليه في مواضيع عصر حروب الوردة الحمراء والوردة البيضاء لكن على الرغم من عدم توفر الأساس الأدبي المتين، فقد أدى مصير الحسين المأساوي وأدت معركة كربلاء إلى ولادة (التعزية) التي تعتبر من أقدم العروض المسرحية في العالم الإسلامي. "
وعلى الرغم مما تقدم في رأي الكساندروفنا وطموحها في ظهور نص مسرحي عربي عن واقعة ألطف، يأخذ شهرته الدرامية مثلما أخذت نصوص شكسبير مكانتها الأدبية، فقد ظهرت نصوص مسرحية عربية عديدة استثمرت أحداث واقعة ألطف في بنيتها الدرامية ومتنها الحكائي، منها ما اخذ شهرة معقولة في الساحة الأدبية والمسرحية، ومنها ما بقي محدودا لضيق مساحة النشر الذي اضعف تداول المطبوع بين البلدان العربية لأنه اقتصر على نشره لمرة واحدة، فضلا عن ذلك المحاذير التي كانت مهيمنة على عيون الرقابة والسلطة السياسية في أكثر من بلد عربي إزاء موضوع كهذا وما يشكله من حساسية خاصة بين هذا الطرف وذاك.
وعليه، فقد حاولنا تتبع عدد من هذه النصوص المسرحية العربية التي استثمرت الواقعة، من خلال المسح الشامل و بالقدر الممكن، وكانت على النحو الآتي:
1- نص مسرحية (الحسين) لمؤلفها (محمد الرضا شرف الدين) وهو أول من كتب المسرحية الشعرية في العــراق. كتب هذه المسـرحية في بغداد، فــي
1352 هـ / 1931.
2- نص مسرحية (مصرع الحسين) للشاعر السوري (عدنان مردم بك) منشور في مجلة العرفان، مجلد 26.
3- نص (نشيد الشهيد) فارسي الأصل، إعداد (محمد عزيزة) بعنوان (آلام الحسين أو مأساة كربلاء) ترجمة: رفيق الصبان، والنص معد عن عدد من نصوص التعزية.
4- مسرحية (هكذا تكلم الحسين) للشاعر المصري (محمد العفيفي) وهي مسرحية شعرية في خمسة فصول، نشرت عام 1969.
5- مسرحية (ثار الله) بجزأين (الحسين ثائرا) و(الحسين شهيدا) للشاعر (عبد الرحمن الشرقاوي) 1969 / 1970.
6- نص (مقتل في كربلاء) للشاعر المصري (فتحي سعيد) في ديوانه الشعري مصر لم تنم، الصادر عام 1973 والنص عبارة عن قصيدة طويلة.
7- مسرحية (مساء التأمل) إعداد قاسم محمد، عام 1974 وهو عبارة عن سيناريو مسرحي اعتمد فيه المعد على ستة مصادر مسرحية.
8- مسرحية (الحسين يموت مرتين) للكاتب المغربي (عبد الكريم برشيد) وهو كتابة جديدة معدة عن نصوص التعزية.
9- نص (تعازي فاطمية) للكاتب التونسي (عز الدين المدني).
10- مسرحية (الحسين - تراجيديا في ثلاثة فصول) للمؤلف المسرحي السوري وليد فاضل، عام 1998.
11- مسرحية ثانية يجيء الحسين للشاعر العراقي محمد علي الخفاجي، 1972، وسيتوقف كاتب السطور عند هذه المسرحية التي تميزت فنيا وفكريا عن مثيلاتها وفي مقال خاص بها.
هذا بالاضافة الى صدور نص مسرحي جديد للشاعر العراقي باقر صاحب بعنوان الحسين / مسرحية شعرية، عن دار الشؤون الثقافية مؤخرا، كذلك فعل الشاعر العراقي علاوي كاظم كشيش وكتب مسرحية بعنوان / يزيد، اطلعنا عليها مؤخرا منشورة في احد المواقع الالكترونية على شبكة الانترنت.
كما ننوه عن وجود نصوص مسرحية أخرى اتخذت من واقعة الطف خلفية لأحداثها، أو تمر على ذكر الواقعة هامشيا على وفق الموقف الدرامي وحاجته إلى ذلك، بل إن هناك من النصوص التي حاولت التي الترميز إلى الواقعة وأبطالها بمسميات مباشرة مرة وغير مباشرة مرة أخرى.
وسيتوقف المقال عند بعض من النصوص المسرحية سالفة الذكر، محاولا تتبع صيغ كتابتها والكشف عن طبيعة استثمار كتابها للحدث التاريخي وتناوله دراميا.
1- نص مسرحية (هكذا تكلم الحسين) للشاعر المصري محمد العفيفي:
ما يلفت الانتبـاه أولا فــي هذه المسرحية هو النقـــد والدراسة التـــي جاءت في مقدمتها للأستاذ العلامة علي الكوراني، تعرض فيها للمشكلات الأساسية التي تواجه شاعر المسرح المعاصر، موضحا الأساليب المناسبة للتصوير المسرحي لتقديم الشخصيات وخاصة التاريخية منها، إلى جانب تعرضه لمشكلة الإيقاع في الشعر المسرحي والوحدة والحيوية في العمل المسرحي، فضلا عن ذلك إعطاء حكمه عن شرعية التمثيل في قوله: " أما التمثيل فهو وسيلة كمختلف الوسائل الإعلامية، يحدد جوازه وحرمته الهدف منه وعدم منافاته للأحكام الشرعية. "
تتكون المسرحية من خمسة فصول، يبدأ المشهد الأول منها من الفصل الأول بظهور معاوية على فراش الموت معلنا عن ارتياحه لان يزيدا سيورثه الحكم من بعده، ليتصاعد الموقف بينه وبين مجموعة الزبانية، الذين يخالفونه الرأي وهو يخوض في هلوسته في الدفاع عن رأيه وعن ابنه يزيد. كما يكشف هذا المشهد عن موقف يزيد من طلب البيعة إليه من الحسين بن علي (ع) والإصرار على ذلك حين يخاطب جواسيسه فنراه يقول: " أما أنت وأنت وأنت / فلتنتشروا حول حسين حتى لا يشرب جرعة ماء كانت أعينكم سابحة فيها / واروني فعل شياطين أمية / فانا أرجو أن تتلطخ أيديكم بدمه / وخطاكم قد بلغت ارض الشام بتلك البشرى ".
كما تعرض المؤلف في هذا الفصل إلى شخصية (جعدة) زوجة الإمام الحسن (ع) في فعلتها الدنيئة حينما قامت بتقديم السم إلى زوجها طمعا في الوعد الذي قدمه لها معاوية بتزويجها ولده يزيد إذا ما قامت بذلك.
لكن العفيفي حاول التدخل دراميا حينما تصرف بان جعل جعدة تعلن عن ندمها الواضح في النص إزاء فعلتها الشنيعة تلك.
في الفصل الثاني وفي المشهد الأول منه يكشف النص ظهور ساحة بيت الحسين وحوله فئات من أهل المدينة يتشاور معهم في ما يجب عمله للخلاص من تخطيط يزيد وأعوانه، مؤكدين على ثباتهم مع الحسين (ع) الذي يقول: " لن نرجع حتى تنهشنا ذؤبان الفلوات / وتمزقنا أظفار الجلادين / فليسرع بُعُدُ الشقة خلف خطانا / حتى لا تهوي جذوتنا في ظلمات الحيرة / وبأنفسنا نور يجري مجرى الدم / ولننقش بالدم ما يقراه الليل بعين نهاره / وتعانقه خفقات قلوب ما خفقت بعد / أو نُرجع للأمة حريتها / فتعود إلى الله ولا تسجد للطاغوت ".
لقد استند العفيفي إلى استخدام الموسيقى الشعرية ببلاغة محكمة ومثيرة للمشاعر والعواطف الإنسانية الجياشة بلغة شعرية يتجلى فيها استخدام الصورة الشعرية في الجمل الحوارية المتبادلة ما بين الشخصيات وخاصة تلك التي نتلمسها في حوارات الحسين (ع) وزينب ومسلم وهانئ والحر الرياحي، بل نجد ذلك الاستخدام الصوري الشعري حتى في حوارات الشخصيات التي تقع في كفة الصراع الأخرى، كفة الشر والمتمثلة هنا في شخصيات أمثال: معاوية ويزيد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن.
كذلك يمكن تلمس الدقة التاريخية التي استند المؤلف إليها في التفاصيل الصغيرة لأحداث الواقعة وتسلسل أحداثها التراتبي وفي أشخاصها بأسمائهم الصحيحة ومواقفهم الحقيقية، لدرجة أن تصل هذه الدقة التاريخية لدى العفيفي إلى الكشف عن عيوب النطق لــدى ابن زيــاد، فهو مثـــلا كان يلفظ الحــاء هاءً، بمعنى انه يقـــول (هسين) بدلا من (حسين).
كما نجد التعامل مع الدقة التاريخية في أقوال مشهورة منسوبة تاريخيا لأشخاصها فيعمل العفيفي على الكشف عن الأقوال نفسها ولكن بحوار شعري يتلاءم وموسيقاه الشعرية المنسجمة مع لغة النص، مثال ذلك حوار الحسين: " أفبالموت تخوفني / وحياة الموتى أكرم من موت الأحياء... "، كذلك ما هو مبين في حوار ابن زياد: " ما خانك قط أمين لكن قد يؤتمن الخائن / أخزاك الله لقد أخفرت أمانته) ". مخاطبا ابن سعد.
كذلك فقد عمد العفيفي إلى الحوار الذاتي مع أنا الشخصية للشاعرية المؤثرة التي تكشف عنها مثل هذه المناجاة الذاتية، فنجد الحسين يقول: " لو كان الأمر إلي نبذت السيف / ولزمت القران / ورأيت يزيد فلم أبصره / لكن الناس نسوا الله فأنساهم أنفسهم / وغدا الإنسان حذاء في قدمي حاجاته / اللقمة عين ساهرة ترقب أسراب لهاثه / والماء أفاع تتلوى فوق لسانه / والخوف ذراعاه وساقاه وعيناه / ورفاق الدرب وخلان الخلوات/ وصرير الباب ولمسة ثوب الطفل ".
كما جعل العفيفي عمل المجموعة أو الكورس والمتمثلة هنا بـ (الزبانية) و (الجلابيب) كما هو دورها في الماسي اليونانية والرومانية فهي تدخل في الحدث الدرامي وتعلق عليه وتعطي به رأيا وتتخذ موقفا واضحا من ذلك الحدث.
وبعد سير الأحداث بتسلسلها التاريخي نفسه وانتقال الحدث من مكان إلى آخر يصل بنا النص إلى موقف الحر بن يزيد الرياحي وخياره بين أن يكون مع الحسين أم عليه، محاولا الوصول إلى عين الحقيقة، وفي هذه الحوارية دليل على ذلك:
"الحر: يا لتنازع أهوائي / صليت وراءك يا سبط رسول الله / ووضعت السيف
فصلى خلفك / بوضوء الوهج الدامي /... فبأي ضمير ارفع سيفي في
وجهك / لكن لم لا احتال على عيشي / فأطيع ابن زياد في بعض الأمر/
ثم يثوب يزيد إلى رشده / ويعود حسين من حيث أتى /... أفديك أبا عبد الله بنفسي... ".
كما كشف الكاتب عن موقف خاص يتعلق بشخصية الحر الرياحي حينما تيقن من وجود عيون تراقبه وتسير وراءه متابعة تنفيذاته لأوامر ابن زياد، وهذا ما استفزه لشعوره بأنه إهانة لشخصه أولا ولاعتباريته كقائد حرب ثانيا، الأمر الذي مهد لوضعه النفسي - وبحسب النص - بان يفسح لنفسه زمنا كافيا للتفكير بما يجري حوله، بهدف اتخاذ القرار الحاسم والمناسب.
ولقد تصرف الكاتب بزمن الأحداث الجارية في نصه، فلجأ إلى طريقة الفلاش باك، محاولا دمج الماضي بالحاضر، واستحضار الشخصيات الميتة ليضعها في مشاهد تتداخل وسير الأحداث التاريخية لواقع النص نفسه، فنجد (معاوية وهنداً وأبا سفيان) يظهرون بين ثنايا الحدث الأصلي للنص في أكثر من فصل ومشهد، كاشفا بذلك عن عالم آخر يكابد أشخاصه الم الندم والحسرة على ما أورثوه لإخلافهم من خطايا وآثام، وكأنهم بذلك يتابعون ما يقوم به إخلافهم فيزيدهم ذلك عذابا وتأنيبا للضمير مستمرين.
كما ويلجأ العفيفي في بعض مشاهده إلى طريقة التمثيل الصامت لتنفيذ بعض من أوامر الشخصيات، الأمر الذي يحيلنا مباشرة - بعد أن كشف الكاتب عن طريقة تعامله مع الجوقة واستخدامه الفلاش باك والتمثيل الصامت - إلى تأثر الكاتب بالنص الملحمي البرشتي في بعض من استخداماته المتنوعة في بنية النص. إلى جانب أن الكاتب متأثر أيضا بالمسرحيات الدينية التي ظهرت في العصور الوسطي حينما اظهر مشاهد عن العالم الآخر، مثلما حدث مع المشهد السادس من الفصل الخامس حينما جعل مجموعة الزبانية في ظلام دامس يحيطون بدائرة زرقاء قاتمة، كما ضمت هذه الدائرة الزرقاء نفسها في المشهد الذي يليه شخصيات القتلة جميعهم: معاوية وهند ويزيد وشمر، وهم محاصرون بالضياع والندم والعذاب في هالة من الظلام الدامس والآلام المستمرة، وكأنهم يعيشون فعلا في العالم الآخر، عالم العقاب ما بعد الموت أو الثواب والعقاب ما بعد الموت بحسب موقف الشخصية من الحدث الرئيسي في المسرحية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن اللغة الشعرية التي اعتمدها العفيفي، وفي اغلب مشاهد المسرحية وخاصة المتعلقة بمواقف الإمام الحسين (ع) والمواقف التي أعقبت استشهاد أهل بيته وأصحابه الميامين، نجدها لغة شعرية عالية التاثيرعند قراءتها واستنباط معانيها وقابليتها على دغدغة المشاعر الإنسانية، فمثلا تتحاور مجموعة من الزعماء بعدما خلا الحسين إلى وداع ولده علي الأكبر وهو يسلم الروح بين يديه: " زعيم 1: دوحة قد سقطت أوراقها الخضر جميعا / وعليها طائر الغيم يغني نغما يبكي السماء / فهي حمراء كجذوة / منذ سوّى معول الموت برمل الطف / جدران ذويه. زعيم2: انه لايسلم الروح ولكن ينبت الأرض غناءً / يا لألحان السماء..".