25 ذي الحجة 1428 - 05/01/2008
قد يرى الشخص إنساناً يجور في الحكم فيسأل عن سبب جوره.
والجواب على ذلك:
إنه جاهل لا يعرف وجه الحق ولهذا يجور إنه يتوخى بهذا الجور جلب نفع إلى نفسه فإن المبطل يرشيه مثلاً ولهذا يجور إنه يريد بذلك دفع ضرر المبطل إذ لو لم يحكم له ضره فيجور فراراً عن الضرر.
إنه يميل نحو المبطل فإنه قريب أو صديق له ولهذا يجور إنه خبيث يحب الباطل ويكره الحق.
هذه أجوبة تقع في السؤال عن علة الجور في الحكم ومثل هذه الأجوبة تقع في السؤال عن علة الجور في سائر الشؤون.
فمن يقدم الرجل المستحق للتأخير على العالم المستحق للتقديم لابد وأن يكون لأحد هذه الأسباب.
ومن يحترم من لا يستحق الإحترام ولا يحترم المستحق له لا يكون إلا عن إحدى هذه العلل.
وهناك سبب سادس للجور وهو العجز فإن من يسب أحداً لأنه سلبه شيئاً أو غلظ عليه يكون عاجزاً وإلا استوفى الحق بدون أن يجنح إلى باطل.
هذه هي أسباب الجور وعدم العدل فهل يتوفر سبب من هذه الأسباب بالنسبة إلى الله حتى يجور.
كلا..
إنه تعالى ليس بجاهل ولا يحتاج إلى جلب نفع أو دفع ضرر ولا يميل إلى أحد بل كل عبيده ولا قرابة ولا صداقة بينه وبين أحد ولا يتطرق في ذاته زيغ أو فساد وليس بعاجز.
فلم يظلم، إن عدل الله واسع وليس بمعناه الضيق الذي يتبادر إلى الأذهان، هو عادل في بريته فلا يحكم جوراً، عادل في قضائه فلا يغني ولا يفقر ولا يشفي ولا يمرض ولا يميت ولا يحيي ولا يعز ولا يذل ولا يعطي ولا يمنع ولا إلا بالعدل، عادل في جزائه فلا يثيب ولا يعاقب ولا يكرم ولا يهين إلا بالعدل، عادل في خلقه فلم يخلق الشمس المضيئة ولا القمر البازغ ولا النجم الزاهر ولا البحر المائر ولا الأرض الفسيحة ولا النبات والحيوان والإنسان ولا إلا بالعدل، عادل في أمره ونهيه فلم يأمر بالواجب ولا يحبذ المندوب ولم ينه عن الحرام ولم يكره المكروه ولم يبح الحلال إلا بالعدل.
إن الفكر الضيق قد لا يدرك وجه العدل في شيء لكن الذنب من ضيق أفق التفكير لا من ضيق العدل قد نرى الصبي يضيق ذرعاً بالدواء لجهله بمنافعه فيسب الطبيب لكن الذنب يعود إلى فكر الطفل لا إلى علاج الطبيب.
إنا لا نعرف وجه الصلاح في كثير من الأمور لكن هل معنى ذلك أن ننكر الصلاح
كلا..
يكفي في الإذعان بالعدل ما نعرف من العدل فيما علمناه.
إن الشخص إذا جهل وجه الصلاح فيما يعين له الطبيب لا يحق له أن ينكر عدل الطبيب والحال أنه يرى عدله فيما يعلم فجهله بكثير من الأدوية لا يبرر رميه الطبيب بالظلم لأنه أوقعه في مشقة العلاج.
يقول القرآن الحكيم ذلك بما قدمت أيديكم وإن الله ليس بظلام أي بذي ظلم للعبيد.
وقال تعالى إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.
وقال سبحانه ولا يظلمون فتيلاً.
وقال عزوجل فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وقال تعالى وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا.
وقال سبحانه وما الله يريد ظلماً للعباد.
وقال تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب.
وسئل أمير المؤمنين عليه السلام عن التوحيد والعدل فقال التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه.
وسئل الصادق عليه السلام عن العدل فقال عليه السلام أما العدل فإن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه.
وقال عليه السلام ولا أمره أي العبد بشيء إلا وقد علم انه يستطيع فعله لأنه ليس من صنعته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون.
وفي حديث: بالعدل قامت السماوات.
القضاء والقدر
للقضاء والقدر ثلاثة مواضع:
قضاء وقدر في التكوين بمعنى أن الله تعالى قضى خلق الأفلاك وقدر أقوات البرية وكذلك كل ما في الكون من الوجود فهو بقضاء الله وقدره لا يحيد الكون عن إرادته وتقديره قدر شعرة وهذا أمر معلوم يؤمن به كل من آمن بوجود الله تعالى.
قضاء وقدر في التشريع بمعنى أن الله شرع الدين فأمر ونهي وندب وحذر وأوجب وحرم فوجوب الصلاة بقضاء الله وحرمة الخمر بقضائه.
وقضاء وقدر في أعمال الناس بمعنى أن الله تعالى قضا أعمال الناس وقدر وهذا يتصور على وجوه.
أ - أمر بالحسن ونهى عن القبيح وهذا معلوم لا غبار عليه.
ب - علم ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية وهذا بديهي بعد ما علمنا أن الله تعالى عالم بكل معلوم لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
ج - أجبر العباد على أعمالهم فلا يتمكن الإنسان من عمل وليس هو مختار فيما يعمل وهذا شيء تحكم البداهة بكذبه.
إنا نعمل الأعمال باختيارنا فإن شئنا أحسنّا وإن شئنا أسأنا.
يقول القرآن الحكيم في صدد القسم الأول:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم.
ويقول في صدد القسم الثاني:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا.
ويقول في صدد القسم الثالث:
أ - وأقيـــموا الصلاة وآتوا الزكاة إن الله يــأمر بــالعــدل والإحســـان وإيــتاء ذي القربى ولا يغتب بعضكم بعضاً ولا تجسسوا إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالحسن والناهية عن القبيح.
ب - يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وإن الله قد أحاط بكل شيء علماً وغيرها مما يدل على علم الله تعالى وقد سبق الإشارة إلى أنه عالم بكل شيء.
ج - سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آبائنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة.
إذن، فالخلق لله وحده لا يشرك فيه أحد، والتشريع أي سن القوانين لله وحده لا ينبغي لأحد أن يضاد تشريعه.
وعمل العبد، حسنة يأمر به الله وقبيحة ينهى عنه يعلمه الله، هو باختيار الشخص إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل.
الجبر والاختيار
الجماد لا خيرة له فلو رميته من فوق جذبه طبعه إلى الأرض والنبات لا خيرة له ينمو تحت عوامل الحر والضوء والتراب والمياه لا خيرة لها تركد إذا لم تجد مسيلاً وتسيل إذا وجدت مسرحاً.
والشمس والقمر والنجوم والسحاب و كلها تجري بتقدير العزيز العليم حسب موازين القدرة العليا.
والإنسان له ناحيتان:
أولا : ناحية التكوين ويشترك في هذه الجهة مع سائر الموجودات فالدورة الدموية وحركة القلب والرئة وتصفية الكبد وطبخ المعدة و و كلها خاضعة للقانون العام الذي أودعه الله تعالى في الجسم
ثانيا : ناحية الإرادة والإنسان من هذه الجهة حر مختار يأكل حيث أراد ويشرب أنى شاء ويمشي كيف شاء ويعمل ويفكر وينظر ويغمض ويحسن ويسيء كل ذلك حسب إرادته ومشيئته.
إن من يزعم أن الإنسان مجبور في عمله كالحجر المرمي والنبات النامي يصادم البديهة، ولو كان الإنسان مجبوراً في عمله لكانت القوانين والمحاكم والأنظمة ووكلها لغواً، ولايقول بذلك إلا من كان بعيداً عن الإنسانية.
الحيوان مختار في كثير من أعماله كما نشاهد فكيف بالإنسان الذي هو أرقى من الحيوان وأرقى.
يقول القرآن الحكيم وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
و قال تعالى قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل.
وقال سبحانه إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً.
وقال عزوجل وهديناه النجدين.
وقال تعالى وقل اعلموا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.
وفي المقام حديث ظريف في تفسير معنى القضاء والقدر ويوضح الاختيار
عن الحسين بن علي عليهما السلام قال دخل رجل من أهل العراق على أمير المؤمنين عليه السلام.
فقال أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر.
فقال له أمير المؤمنين أجل يا شيخ! فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر.
فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين.
فقال مهلاً يا شيخ! لعلك تظن قضاءاً حتماً وقدراً لازماً لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر ولسقط معنى الوعد والوعيد ولم تكن على مسيء لائمة ولا لمحسن محمدة ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالإحسان من المحسن تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأمة ومجوسها.
يا شيخ إن الله عز وجل كلف تخييراً ونهي تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قال فنهض الشيخ وهو يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته***يوم النجاة من الرحمن غفراناً
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا***جزاك ربـــك عنا فيه إحساناً
فليس معذرة في فــــعل فاحـــشة***قد كنت راكبها فسقاً وعصياناً
لا.. لا.. ولا قــــــائلاً نــاهيه أوقعه***فيها عبدت إذن يا قوم شيطاناً
ولا أحب ولا شـــــاء الـــفسوق ولا***قتل الولي لـــــه ظلماً وعدواناً
أنى يحب؟ وقد صــــمت عزيمتــــــه***ذو العرش أعلن ذاك الله أعلاناً
وفي حديث فقال الشيخ يا أمير المؤمنين! فما القضاء والقدر الذين ساقانا وما هبطنا وادياً وما علونا تلعة إلا بهما.
فقال أميــــرالمؤمـــنين عليه السلام الأمــر مــن اللـــه والحكم ثــم تلا هــــذه الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً.
وقد يزعم بعض الناس أنه لا يفيد العمل وقضاء الله سابق وقدره حتم.
ولننظر إلى القرآن كيف يرد هذا القبيل من الكسالى.
قال تعالى ليس للإنسان إلا ما سعى وإن سعيه سوف يرى.
وقال سبحانه كل امرئ بما كسب رهين وقال عز وجل وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.
وقد كانت الأنبياء عليهم السلام وهم أعلم الناس بالقضاء والقدر يعملون طوال حياتهم ويكدحون ويتعبون وكذلك الأئمة المهديون عليهم السلام والأولياء الصالحون فليس الاتكال على القضاء إلا كذباً وكسالة وشركاً من الشيطان.
القوانين والدين
هناك فرقان جوهريان بين قوانين الأرض وأحكام السماء.
إن قوانين الأرض تضعها في أحسن الفروض زمرة من الخبراء الذين يحبون خير البشر ولكن.
هل نظرهم مأخوذ عن جميع الأفراد المتشتتة في شرق الأرض وغربها أم مأخوذ عن أفراد بيئتهم الذين هم بعض أفرادها فيحسون بأحاسيسهم فقط ويرون في نطاق رؤيتهم.
هل فكر مستقى من جميع الظروف والأزمنة التي تعاصرهم وتأتي في المستقبل أم مستقى ظرفهم الملابس وزمانهم الخاص.
هل هم معصومون عن الأخطاء وهل علمهم يستوعب جميع الجهات؟
إنها أسئلة تعترض في هذا المقام والجواب:
إن فكرتهم مستقاة عن جيل معين وزمان محدود ودرايتهم غير معصومة تخطأ مرة وتصيب مرة.
وفي هذه الحالة كيف يمكن الركون إلى فكرهم وتحكيم قوانينهم، دع عنك إن غالب المقننين تحكم عليهم الإنسانية وحب السلطة والقومية وتميل طباعهم نحو الجور والعسف مما يزيغ بالقانون حتى عن نصابه الممكن، وكثيراً ما لا يوجد شيء من هذه الميول والاتجاهات في المقنن ولكن هناك رقيب عليه من سلطة عليا كما رأينا كثيراً في السلطات الديكتاتورية التي كانت توجه البرلمان كيفما شاءت، أو ينحرف عن الأكثرية التي تتجه نحو ميولها ورغباتها المشبعة، وهذا بخلاف الدين، فإن مشرّعه وواضع نظامه هو الله الذي لا ينظر إلى جيل دون جيل أو زمان غير زمان أو بيئة لا سواها، ولا تزيغه الأهواء والميول ولا يجهل الصلاح، وهو تعالى بعد هذا وذاك أرأف بعباده من كل أحد، ولذا يكون حكمه هو الصلاح وشريعته هي العدل ونظامه هو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
قوانين الأرض تعنى بحاجة الجسد وحاجة الجسد فقط فهي موضوعة للبيع والشراء والزواج والطلاق والرهن والإجارة والتعليم والصناعة والزراعة والري والسرقة والتهريب، وذلك بخلاف قوانين السماء فهي معنية بالجسد والروح معاً فهي كما تعني بالزواج والطلاق تعني بالحب والطهارة، وكما تلاحظ البيع والشراء تلاحظ الغش وحب الخير للطرف الآخر، وكما تحث على التعليم تحث على الخلوص وصفاء القلب.
وكما تحبذ الزرع تحبذ التجويد والتوكل، ثم تضع شطراً سخياً لطهارة القلب من الكبر والحسد والأنانية وحب الذات وحب الظهور وحب السلطة ولتحليه بالإخلاص والعطف واللين وحب الخير وكراهة الشر.
ولطهارة اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والغمز والهذر، ولطهارة البطن والفرج عن مال الحرام والزنا واللواط والسحق، ولطهارة اليد، ولطهارة الرجل، ولطهارة الأذن، ولذا نرى. أن القانون جامد لا روح له والدين حي يتحرك وينمو ويزهر ويثمر.
ومن سبر تاريخ الإنسان رأى أن كل مجتمع ساده الدين عاش في ظلال الأمن والعدل والراحة والرفاه وكثرت فيه المساواة والأخوة والعطف والحنان، وبالعكس من ذلك المجتمع الذي نزح عن الدين ففيه القساوة بأقصى درجاتها والفوضى والعسف والفساد والشر.