6 رمضان المبارك 1436 - 24/06/2015
تقرير: الشيخ علي الفدائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
تتمة لما ذكرناه ليلة أمس نقول:
هناك ثلاثة أشياء لا بد من البحث عنها فإنّ عليها بناء الفقه( 1)،
أولاً: الأحكام، وهي من الله عزّ وجلّ، قال تعالى: إن الحكم إلا لله) (2)، فهو عزّ وجلّ له حقّ التشريع دون غيره إلاّ من فوّض إليهم ذلك من المعصومين (عليهم السلام) فـ هم بأمره يعملون) (3).
ثانياً: موضوعات الأحكام، فهي على قسمين: إما أن يعيّنها الشارع، أو لا، ويكون أمرها في الثاني إلى العرف.
وفي الأول: إذا حدّدها الشارع وكان للتحديد مصاديق متعارفة وغير متعارفة، فلابد من الحمل على المتعارف دون غيره.
فالوجه مثلاً في الوضوء حيث قال تعالى: فاغسلوا وجوهكم) (4)، وسمّي الوجه وجهاً لأنه يواجه به الإنسان، وحسب المصطلح هو حيث تعليلي وليس حيثاً تقييدياً.
الوجه موضوع حدّده الشارع وقال: ما دارت عليه الإبهام والوسطى.
ودارت بمعنى أي أحاطت واشتملت، ولا يراد به الدوران، كالطواف حيث يراد به الأعم من الدوران حول الشيء، كما ورد في باب السعي وليس فيه دوران قوله تعالى: (فلا جناح أن يطوّف بهما) (5).
قال الفقهاء: هذا التحديد من الشارع منصرف إلى المتعارف، فما دارت عليه الإبهام والوسطى إذا كان فيه مصاديق غير متعارفة فهي غير مشمولة، بل لابد من الأخذ بالمتعارف من الإبهام والوسطى وما بينهما.
هذا موضوع شرعي تعلّق به وجوب الغَسل، وهو منصرف إلى المتعارف.
وبشكل عام إلاّ ما خرج بالدليل، الألفاظ التي تشير إلى الموضوعات في النصوص الشرعية من الكتاب والسنّة، لا ظهور فيها بالنسبة إلى الفرد غير المتعارف، وإذا لم يكن ظهور فلا حجية فيها عليه، لأن الظهور هو الحجّة وهو المنجّز والمعذّر دون غيره، ويمكن للمتتبع أن يبحث في مختلف كتب الفقهاء من العلاّمة والشيخ والجواهر وغيرهم ليجد بنفسه عشرات الموارد مما حملها الفقهاء على المتعارف وقالوا لم يقصد من المطلقات غير المتعارف، أو أن المطلقات لا ظهور فيها في جميع المصاديق بل تخص ما تعارف منها، أو يحمل المطلق على المتعارف، أو ما أشبه مما اتّحد في المعنى وإن اختلف التعبير.
فالألفاظ وإن كانت مطلقة ولكن بما أنها ألقيت على العرف، لا يفهم العرف منها أكثر من الفرد المتعارف، وهذا من مصاديق الظهور في ما ينصرف إليه كما هو واضح.
وقد أضفت على ذلك، ولا أقول إنه منّي، فربما رأيته في كلمات الفقهاء وأخذته منهم: وهو أنه لو شككنا في شمول الإطلاق لغير المتعارف، وأنه هل يشمل اللفظ بإطلاقه مختلف المصاديق حتى ما لم يتعارف، عندئذ بما أن الشكّ راجع إلى الشكّ في مقدّمات الحكمة وعدم تماميتها فلا إطلاق، ولابد حينئذ من الأخذ بالقدر المتيقّن، إذ لا إطلاق ليشمل.
وبعبارة أخرى: اللفظ يشمل المتعارف قطعاً، أما غير المتعارف إذا شكّ في شموله له فالأصل عدم الشمول، لأن الشكّ في الظهور مجرى أصالة عدم الظهور، بخلاف الشكّ في المراد فإنه مجرى أصالة الظهور، كما فصّل في محلّه.
والفرق بين الظهور في المتعارف، أو الشكّ وعدم تمامية الإطلاق، هو أن الأول يكون أمارة ومثبتاتها حجّة بلا إشكال، بخلاف الثاني فإنه أصل عملي ولا تكون مثبّتاته حجّة.
نعم إذا تتبع الإنسان لا يرى فقيها واحداً ألّف في الفقه ولم يقل بهذه القاعدة أو لم يفت بحسبها، بل صرّح الفقهاء بالانصراف إلى المتعارف كراراً وتكراراً وفي أكثر من مورد.
هنا سأل أحد الحضور من الطلبة الأفاضل وقال: فلماذا قالوا بوجوب الزيادة على هذا التحديد، كما في الوجه حيث قالوا بوجوب الزيادة على ما دارت عليه الإبهام والوسطى.
فأجاب سماحته (دام ظله): هذا من باب المقدمة العلمية، ولا ربط له بما نحن فيه.
((مثال الدلو))
ثم رجع سماحته إلى أمثلة بحثه وقال:
ومن أمثلة ذلك الدلو، حيث ورد النزع بالدلاء، إما وجوباً أو استحباباً على ما رآه المتأخّرون في الثاني والمتقدّمون في الأول، فما هو الدلو، هذا مما لم يحدّده الشارع، ولكن قال الفقهاء يحمل على الدلو المتعارف.
نعم قال بعضهم المراد دلو نفس البئر، ولكن أشكل عليه معظم الفقهاء، فقالوا المعيار المتعارف من الدلاء لا الدلو الخارجي على هذه البئر.
((اختلاف التحديد لاختلاف المراتب))
قال أحد الفضلاء من الحضور: ربما يكون اختلاف التحديد من باب اختلاف المراتب والحكم واحد؟
فأجاب سماحته (دام ظله): ليس هذا من المراتب بل مرتبة واحدة فقط، وإن احتملها البعض كبحث علمي لكنهم لم يلتزموا بها في الفقه.
فالفقهاء الذين رأوا روايات الأشبار المختلفة لم يحملوها على المراتب.
فالكر إذا كان 27 شبراً فهو عاصم ومعتصم، وحينئذ لا معنى للمراتب، لأنه يستلزم أن يكون في بعض المراتب نفسها عاصماً وغير عاصم، ومعتصماً وغير متعصم في وقت واحد، وهذا لا يكون لأنه من الجمع بين الضدين بل النقيضين.
فلم أجد من أفتى بالمراتب.
((قصد القرآن أو الإنشاء))
ثم أشار سماحته إلى بحث سبق قبل ليلتين وقال:
انظروا إلى هذا الكتاب، وسأقرأ لكم منه مسألة واحدة، وهي مرتبطة بما ذكرناه من أنه هل يلزم قصد القراءة في مثل (إيّاك نعبد)، و(اهدنا الصراط)، أو يمكن قصد الإنشاء فيه، أو كما قال صاحب العروة يمكنه قصد الإنشاء بالقراءة على ما سبق.
الكتاب اسمه (مجمع الرسائل) وهي رسالة عملية باللغة الفارسية للشيخ صاحب الجواهر، وعليها تعليق عدد من أعاظم الفقهاء وهم: الشيخ الأعظم الأنصاري، والميرزا الكبير المجدّد الشيرازي، والمحقّق الخراساني، والسيد اليزدي صاحب العروة، والشيخ محمد تقي الشيرازي، والميرزا النائيني، والشيخ الحائري المؤسس، والآقا ضياء العراقي.
يقول في الصفحة 263 المسألة 825 ما ترجمته:
(إذا قرأ المصلّي (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين) به نيّة الخطاب من نفسه، فصلاته باطلة، وإن قرأها بنيّة القرآنية وتصوّر معناها في نفسه فلا إشكال)
ولم يعلق على المسألة إلاّ صاحب العروة حيث قال ما ترجمته:
(إذا قصد الخطاب بالقرآن فلا إشكال في صلاته) وهذا ما ذكرناه من الإنشاء بالقرآن.
أقول: (بطلان صلاته) ربما يكون بالعنوان الأولي إي قبل ملاحظة أدلة لا تعاد، وإلاّ فإن قلنا بأن (لا تعاد) تشمل الجاهل بالجهل البسيط أو المركب فلا إعادة.
وإن قلنا بمقالة النائيني وإنها تخصّ الناسي فالصلاة باطلة في الجاهل.
ثم إن هذه المسألة بعينها مذكورة في العروة وقد أجاز السيد ذلك، على خلاف صاحب الجواهر في رسالته هذه، والغريب أن هناك بعض المعلّقين بأنفسهم سكتوا في الكتابين على الرأيين المختلفين.
((الصلاة معراج هل رواية))
قال أحد الحاضرين: رواية (الصلاة معراج المؤمن) ربما تدلّ على ...
فقال سماحته (دام ظله): قال البعض هذه ليست رواية، ولم نجدها في المصادر، نعم هي مشهورة على الألسن.
((الميرزا القمّي ومسألة اجتماع الأمر والنهي))
وسأل أحد الفضلاء وقال: هذا لا يكون أسوأ من مسألة اجتماع الأمر والنهي حيث أجاز الميرزا القمي (رحمه الله) اجتماعهما ولم يفت ببطلان الصلاة في الغصب.
فقال سماحته (دام ظله): عدم البطلان إذا كان في مثل النظر الحرام في الصلاة فهو ليس من مصاديق اجتماع الأمر والنهي لأن النظر شيء والصلاة شيء آخر، وليس النظر من أفعال الصلاة وأقوالها أو حركاتها وسكناتها فلا يتعلّق الأمر بنفس ما ورد فيه النهي.
أما أذا أوجب الشارع التكفير تقيّة مثلاً فلم يكفّر، فهنا اجتمع الأمر والنهي، فالبطلان لأجل أن هذه الصلاة بهذه الهيئة لا أمر فيها، والعبادة بلا أمر باطلة، كما أن العبادة المنهي عنها باطلة.
نعم إذا تمكنّا من تصوّر الأمر العبادي في هذه الصلاة التي لم يراع فيها التقية مع الأمر الإلزامي بها فلا بأس.
الميراز القمّي (رحمه الله) يقول في هذا الباب: إن المأمور به عنوان، والمنهي عنه عنوان آخر، ومجرد اجتماعهما في مصداق لا يبطل الصلاة. فهو يثاب بصلاته ويعاقب لغصبه مثلاً.
وأشكلوا عليه بأن وحدة المعنون وإن تعدّد فيه العنوان لا يمكن فرض اجتماع الأمر والنهي فيه، فلا بد من الأخذ بأحد الجانبين إما جانب الأمر أو جانب النهي.
قال أحد الفضلاء: إذا لم يؤدّ الدين الواجب أداؤه وصلّى قالوا بصحّة صلاته مع النهي عن تأخير أداء الدين؟
فأجاب سماحته (دام ظله): مقتضى القاعدة صحّة الصلاة لأنها بهذه الحركات والسكنات تعلّق بها الأمر ولم يتعلّق بها النهي لتأخير الدين.
أما مسألة الغصب والصلاة، فإذا كان الشارع يقول: لا تصل في الغصب كانت الصلاة فيه باطلة، كما أفتوا ببطلان صلاة الرجل في الذهب والحرير، وبطلان صلاتهما في غير المأكول، وذلك لأن الشارع قال: لا تصلّ في الذهب والحرير وغير المأكول،
ولكن في الغصب قال: لا تغصب، وفي الصلاة قال: صلّ، فإذا جمع المكلّف بينهما بسوء اختياره، فما هو الحكم.
الميرزا القمّي (رحمه الله) قال بصحّة صلاته، فهو يستحقّ العقوبة لغصبه ويثاب لصلاته، لكن المشهور قالوا ببطلان صلاته، لأن المعنون الواحد هو مصداق للغصب والصلاة معاً، فهذه الحركة هي مأمور بها وهي نفسها منهي عنها فلا يجتمعان.
نعم اذا أمكن تصوّر أن الغصب والصلاة شيئان، لا يُبطل الغصب الصلاة، كما لو كان هناك من يصلّي وهو قائم في القراءة فجعلوا على منكبه عباءة مغصوبة ولم يتحرّك الشخص بل استمر في قراءته إلى ما قبل الركوع فلم يتصرّف فيها بحركته، وقبل الركوع أزاحوا عنه العباءة، قالوا بعدم بطلان الصلاة حينئذ لعدم تصرّفه في الغصب.
نعم إذا ركع فقد تصرّف فيها، وكذا إذا حرّك نفسه، أو أرادوا نزعه فمنعهم، أو كان مبرداً فتدفأ به لما جعلت على عاتقه، وبشكل عام إذا سمّي عرفاً أنه تصرّف فيها فحينئذ يجتمع الأمر والنهي معاً، وهو موجب للبطلان، هكذا قال المشهور.
هنا قال أحد الفضلاء: ألا يمكن تصحيح الصلاة بعنوان الترتب؟
فقال سماحته (دام ظله): الترتب فيما كان هناك أمر وأمر، يترتب أحدهما على الآخر، كما لو كان هناك أمر بالضد المهم معلّقاً على عصيان الأمر بالأهم ونحوه، وربما يكون منه ما لو آجر نفسه للحجّ النيابي عن الشخص الأول، ثم آجرها لغيره في نفس السنة فحجّ للثاني.
ولكن هنا ليس لنا أمر وأمر.
ثم قال سماحته (دام ظله): الميرزا القمّي (قدّس سرّه) له عدّة كتب فقهية قيّمة جدّاً، له كتاب الغنائم، وفيها مسائل مهمة لم يذكرها حتى صاحب الجواهر.
علماً بأن صاحب الجواهر والميرزا القمّي كانا معاصرين، وهما من تلامذة الوحيد البهبهاني (رحمهم الله) جميعاً.
ومن مؤلّفات الميزرا القمّي الفقهية كتاب (مناهج الأحكام) و(جامع الشتات).
واللطيف أن الميرزا القمّي الذي قال بصحة اجتماع الأمر والنهي في الأصول لم يلتزم به في الفقه، فلم يجز ذلك في موارد عديدة من الفروع الفقهية يمكن معرفتها بمراجعة كتبه المذكورة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.